“محمد عمارة ” من التوجّه “العروبي اليساري” إلى “الإسلام الوسطي”
بعد مسار بحثي تخصّص فيه في الفلسفة الإسلامية، وكتب ما يفوق مائتين وأربعين كتابا، ونظّم محاضرات وشارك في مناظرات تنافح عن تصوّره للإسلام الوسطي، وتدافع عن الإصلاحية الإسلامية وتعمل لاستئناف مسيرها، رحل الباحث والمحقّق المصري محمد عمارة وعمره تسعون عاما إلا سنة.
وحقّق المفكّر الإسلامي أعمال روّاد الإصلاح الفكري الإسلامي من قبيل محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، ونشر أعمال مصلحين وكتّاب وباحثين مصريّين وعرب بارزين أمثال رشيد رضا، وحسن البنا، وخير الدين التونسي، وسيد قطب، ومحمد الغزالي، ورفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، وعلي مبارك، وطه حسين.
وأرّخ محمد عمارة لتيّارات الفكر الإسلامي، وشدّته منذ سنوات الجامعة قضية إنصاف فكر المعتزلة، وكتب عنهم، واستمرّ إلى آخر حياته يؤكد بأنّهم مظلومون فكريا، داعيا إلى التّمييز بين تيارات الفكر داخل الفكر الاعتزالي نفسه.
بدأ محمد عمارة حياته الفكرية عروبيّا يساريا، وكان عضوا في حزب “مصر الفتاة”، الذي صار حزبا اشتراكيا بعد ذلك، وقال في لقاءات مصوّرَة إنّه دخل اليسار من باب القضية الاجتماعية والثورية.
فُصِلَ محمد عمارة عن الجامعة، وحلّ ضيفا على السجون المصرية لمدّة ناهزت ستّ سنوات. ثم سار في مسار بوّأه عضويّتَي هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلامية، وصيتا واسعا في العالم العربي الإسلامي، حيث اقترن اسمه بوصف “مفكّر إسلامي”.
هذا الباحث والكاتب والمحقّق المصري، الذي شهد على تحوّلات مصر من النظام الملكي إلى الجمهوري فالوحدَة مع سوريا ثم جمهورية مصر العربية، تعدّدت كتاباته التي تقدّم روح الحضارة الإسلامية، وتنتقد “التأويل العبثي” للوحي والنبوة والدّين، وتقابل بين التّنوير العلماني والتنوير الإسلامي، وتحدّد طرق تحقيق الوحدة الإسلامية، وتتبّع تحوّل هوية مصر إلى هوية عربية إسلامية، والتحديات التي تواجه العالم العربي، وتنفي الشبهات التاريخية التي تقارب القدس وفلسطين.
كما كتب المفكّر المصري في أهمية الفنون الجميلة والموسيقى، نافيا عداء الإسلام لهما، ورابطا الأعمال الفنية النّموذجَ بالتي ينتجها الإيمان، لا التي تنتجها الحضارة المادية.
وكان الراحل ينتقد من حرص على تسميتهم “غلاة العلمانيين”. كما انتقد تركيز الحركة الإسلامية على السياسة، وإهمالها المشروع الإصلاحي، والحديث عن الاحتلال الذي تعيشه الأمة بالقواعد العسكرية المنتشرة فيها، وغياب مسألة العدل الاجتماعي عندها بعدما كانت تثار عند بعض رموزها في بداياتها. كما كان له سجال واسع مع البابا شنودة والكنيسة القبطية، وانتقد في ردود ولقاءات ما وصفه بـ”المشروع العنصري الذي يريد إحلال اللغة القبطية محلّ اللغة العربية” بمصر، ودعا إلى خروج المسيحيين من “جحر الكنيسة” ودخولهم في مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات السياسية.
وظلّ محمد عمارة حتى آخر حياته مناهضا قويا للاستبداد، داعيا إلى “النشاط السياسي السلمي الديمقراطي”، فأشاد بالثورة المصرية، والإطاحة بـ”نظام العار”، ورفض الإطاحة بالرئيس المصري الراحل محمد مرسي، واعتبرها في بيان مصوّر “انقلابا عسكريا على التحول الديمقراطي الذي فتحت أبوابه ثورة 25 يناير 2011…”، ويعيد العقارب في مصر “إلى ما قبل ستين عاما عند قيام الدولة البوليسية القمعية”، مسجّلا أنّ ذلك “يضرّ بالتحوّل الديمقراطي للأمة، ويضرّ بالقوات المسلحة بشَغلها عن مهامّها الأساسية”.
وكان محمّد عمارة يرى أن “المرأة مِثْلُ الرجل في الولاية السياسية”. ونفى علاقة الإسلام، في كتب ومقالات وحوارات، بالحادث من تمييزٍ في عاداتٍ وتقاليد بالبلاد العربية.
وفي مناظرة مصوّرة واسعة الانتشار، ردّ محمد عمارة على الناشطة النسوية والكاتبة المصرية نوال السعداوي، قائلا إنّ “قول: المرأة ترث نصف ما يرثه الرجل أكذوبة”، مضيفا: “فلسفة الميراث لا علاقة لها بالذّكورة والأنوثة على الإطلاق، والمتوفّى عندما يترك بنتا وأما وأبا تأخذ البنت النصف والأم الثمن، ويأخذ الأب أقلّ من البنت ولو كانت رضيعة، وإذا كانتا ابنتين تأخذان ثلثي التركة ولو كان أربعون ذكرا (…) فالمعيار هو درجة القرابة، والمعيار الثاني هو موقع الجيل الوارث، فكلما كان سنّه أصغر يكون الإرث أكبر، (…) والحالة الوحيدة التي فيها للذّكر مثل حظّ الأنثيين هي عندما يحدث اتفاق في درجة القرابة واتفاق في موقع الجيل الوارث من المتوفى، ويكون الفارق في العبء المالي”.
وأوصى محمد عمارة، قبل وفاته، بإكمال مشاريعه الفكرية وكتبه وأبحاثه، ونشرِ أفكاره بين الناس في كلّ مكان، وفق ما نقله عنه ابنه خالد عمارة في صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”. وأضاف: “توفي أبي رحمه الله وهو راض عن الجميع وسامح الجميع، حتى من ظلمه أو ضايقه يوما ما”. توفي “وهو يدعو لنا ولكل البشر بالخير والهداية”. ودعا ابنه كلّ محبيه إلى أن يكونوا “الولد الصالح الذي يدعو له”.
ولم يمرّ خبر وفاة هذا الباحث الإسلامي، الذي تفرّغ للعمل البحثي والفكر والكتابة، دون تفاعل واسع كانت ضمنه أسماء أكاديمية وبحثية ودعويّة مغربية، منها الأكاديمي محمد الخمسي، الذي نعى محمد عمارة قائلا إنّ من بين مساهماته “توازن تديّن الشّباب”، مسجّلا أنّه “استطاع أن يُبقِيَ مسافة متوازنة في عالَمٍ حكَمَه التحيُّزُ الأعمى والاصطفاف البليد.”