فوبيا التغيير
يخشى العديد من الناس فكرة «التغيير» حيال أي شيء، معتقدين دائماً أنها خطوة يحفها العديد من المخاطر، ويسودها الغموض؛ لأنها تتجه نحو المجهول وعدم الاستقرار، لذا دائماً ما يفضلون الاستمرار على نمط الحياة نفسه الذي يعيشونه، الذي يمثل بالنسبة لهم مرحلة من مراحل الاستقرار.
التغيير سُنة كونية بل هو خطوة من خطوات التطور في الحياة وفي جميع المجالات وإلا لما سارت عجلة الحياة دون توقف، قد نؤمن ببعض هذه التغيرات ونسلم بها على أنها حقيقة لا مفر منها، وقد نتحفظ على بعضها الآخر بعد أن نشعر بأننا غير قادرين على التأقلم مع تلك المتغيرات، فننعتها بأوصاف لا يقرها العقل ولا المنطق.
يقول الفيلسوف اليوناني هرقليطس: «إن التغيير قانون الوجود، وإن الاستقرار موت وعدم»، فقد شبه فكرة التغيير بجريان الماء بالنهر، فعندما يكون في حالة حركة وجريان يكون نقياً، أما في حالة الركود فإنه يأسن أي يخرب، وتخرج رائحته.
ما حدث في كثير من الدول العربية من تغيير الأنظمة التي جثمت لعقود على صدور شعوبها أصاب الكثيرين بالخوف والقلق من المستقبل، ويرجع هذا الخوف في الغالب إلى الخوف والقلق من عواقب هذا التغيير.
الكثير يفضلون العيش على ما هم عليه على أن يجازفوا بتغيير الواقع الذي يعيشونه، حتى إن كان هذا الواقع فيه الكثير من المذلة والهوان، بعضنا يتمنى التغيير، لكنه لا يريد الاختيارات، يفضل لو جاءه التغيير كفرض يجب تنفيذه كحل نهائي ليس له بديل، وليس له حق حتى رفضه، فهم يخشون لوم أنفسهم أكثر من لوم الآخرين.
التغيير سُنة كونية اجتماعية ونفسية، والتاريخ يؤكد لنا أن الحاجة إلى التغيير قضية مهمة لاستمرار الحياة، كما أن التغيير هو فعل اجتماعي تقوم به الجماهير، ولا سيما الطبقات التي تعاني الظلم، طامعةً في تبديل ظروف حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى الأفضل.
تجاوُز خوف البعض من ظاهرة التغيير إلى محاربتها قبل حتى أن تفكر بها الجماهير، ونلحظ ذلك من خلال سيناريو إفشال الثورات وإدخالها في الفوضى، وهي السياسة المعتمدة من عدة دول لتدمير التغيير حتى لا يحقق نجاحاً ويكون واقعا جديداً جذاباً.
لكن -بالتجارب التاريخية- كل هذه المحاولات مآلها بالفشل؛ لأن واقعياً الحياة التي نعيشها قائمة على ثنائية التناقضات والأضداد وعلى التغيير والتطور والتحول المستمر في كل شيء، ومن بينها بكل تأكيد المجتمعات.
هذه التناقضات تؤدي بالضرورة إلى تغيير الواقع الحياتي وظهور أشكال جديدة في المجتمع والسياسة وفي بنية الدولة؛ لذا يعد التغيير ولا سيما في الأنظمة السياسية عملية مستمرة دائماً سواء كان هذا التغيير سريعاً أو بطيئاً فهو آتٍ لا محالة.
العلامة العربي «ابن خلدون» في مقدمته الشهيرة ينطلق من مبدأ أوّلي ومفهوم جوهري، يمكن أن نعده منطلق تفكيره في نظريته السوسيولوجية وهو أن التغيير سُنة من سنن الحياة، وأمر حتمي لا مرد له، ومن دونه تصبح المجتمعات في حالة سكون، يؤدي في النهاية إلى انحلالها واندثارها.
وبما أن الخوف من التغيير يعده العلماء مرضاً نفسياً «تروبوفوبيا»، فإنه يحتاج إلى خطوات للعلاج، حيث يعالج الشخص المصاب بفوبيا التغيير عبر تعريضه تدريجياً أو بشكل مفاجئ للمواقف التي تثير مخاوفه، فهذا يعني أنه لا مهرب من خوف المجتمعات من التغيير إلا عبر مواجهة التغيير ذاته.
وعند حدوث التغيير يتململ البعض – وفي الغالب هم الأطراف التي لم تسهم في هذا التغيير- وترتفع أصواتهم بالنقد وفي الكثير من الأحيان السب والشتم للواقع الذي تسبب به هذا التغيير، ولعن كل من شارك فيه.
هذه الأطراف في العادة -بعد كل حالة تغيير- تصاب بــ «نوستالجيا»، أو ما يعرف باسم الحنين إلى الماضي وهي حالة عاطفية نصنعها نحن في إطارٍ معين وفي أوقات وأماكن معينة، ويمكن وصفها بأنها عملية يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة مع طرد جميع اللحظات السلبية.
فيتذكر هؤلاء كل إيجابيات ومحاسن الزمن الذي يسبق التغيير، ويعيشون في حالة من الحسرة والندم لا تقدم ولا تؤخر.
ما لا يعرفونه أن في حالة «نوستالجيا» دائماً ما نصنع الذكريات الجميلة فقط، ونبحث عن السعادة في الذكريات الدافئة، ولا تسمح لنا هذه الحالة باسترجاع أي ذكرى سيئة عن ذلك الزمن، فنتوقف في مكاننا وفي الكثير من الأحيان تجعلنا نكره حاضرنا، وبالتالي مستقبلنا فيبقى الماضي هو الأفضل دائماً وأبداً.
التغيير سُنّة الحياة وبما أنه هو سُنة الحياة فقد أصبح أمراً حتمياً لا مفر منه، أما مَن يعجر عن التكيف مع التغيير فهو يحكم على نفسه بالاندثار.
The post فوبيا التغيير appeared first on عربي بوست — ArabicPost.net.