عندما نصنع تاريخ بالعنف
مابريس / لندن / هلا فتحي
كثيرة هي الأفلام التي تناولت الحرب العالمية الثانية والأحداث التي زامنتها وعواقبها حتى تكاد استنفزتها وبل تكاد تجزم في بعض الأحيان أنه لم يعد في الإمكان تقديم المزيد عنها وهو نفس حال الحروب الأخرى التي خاضتها أمريكا وصنعت منها هوليوود أفلام كثيرة بداية من حرب فيتنام مرورًا بأفغانستان وانتهاءً بالعراق فضلًا عن الحرب الباردة مع الإتحاد السوفييتي. وهذا أمر طبيعي في ظل وجود أزمة متعلقة بوجود النص السينمائي الجيد الذي يجعل هولييود تخرج من قوقعة تقديم السلاسل السينمائية وأفلام الرعب السيئة والكوميدية المبتذلة وقصص الأبطال الخارقين التي لا تطرب في مجملها – علمًا أني من متابعيها ومحبي الجيد منها – ولعل هذه قضية سينمائية تستحق الطرح وحدها في موضوع آخر متعلقة بخصوص هذا الشح.

فيلمنا الحالي هو من أفلام القسم الثالث وقد تصدى له براد بيت كمنتج – بمشاركة المخرج وآخرين – وكبطل رئيسي مع مجموعة من الممثيلن أصحاب الوجوه المعروفة والشابة مثل شيا لوبوف، مايكل بينا ولوجان ليرمان. في الحقيقة أن هذا الفيلم كان أحد الأفلام المنتظرة بالنسبة لي هذا العام لسببين رئيسية، الأول هو ما الجديد الذي سنراه في فيلم يخوض كسابقه في خضام الحرب العالمية الثانية، بينما الثاني هو ما الذي سيقدمه براد بيت في فيلمٍكهذا وبخاصة أن السنة الماضية كانت حافلة بالنسبة له ما بين نجاح تجاري لفيلمWorld War Z)) مع تقييم جيد واحتفاء نقدي بفيلم (12 Years a Slave) والذي شارك في بطولته كممثل مساعد مع تتويج للأوسكار له كمنتج وأخيراً الفشل الذريع على الصعيدين النقدي والجماهيري في فيلم (The Counselor) من إخراج ريدلي سكوت مع نخبة من ألمع نجوم السينما.
قصة الفيلم تتحدث عن دون كوليير (براد بيت) الرقيب في الجيش الأمريكي من جبهة الحلفاء وفرقته المكونة من بويد (شيا لوبوف)، تريني (مايكل بينا) وجرادي (جون بيرنثال) حيث يخوض معارك طاحنة ضد الألمان بدبابته الحربية (Fury) والتي يعني اسمها الحنق أو الغضب الشديد. ومن هنا نرى كيف يستعرض الفيلم حياة هذه الفرقة ورحلتهم بهذه الدبابة داخلها وخارجها بمثابة العائلة داخل منزلهم. لعل المشاهد يرى أن الأمر إلى الآن عادي وأن الجديد المتمثل في العلاقة بين الفرقة والدبابة لا يستحق المشاهدة ولكن تأتي هنا الإضافة الأهم وهو الوافد الجديد إلى الفرقة نورمان (لوجان ليرمان)، الفتى الذي أجبرته الأوامر أن يشارك في الحرب ميدانيًا رغم أنه كاتب وأقصى ما يجيده هو كتابة 60 كلمة في الدقيقة، ليأتي الخط الدرامي هنا والمتمثل في كيفية رؤية نورمان للحرب والتعامل معها وتأثيرها عليه وأخيرًا اندماجه مع فرقته الجديدة والتي يتميز كل واحد فيها بطباعه الخاصة.
سبق وأن تحدثت في المقدمة عن خطورة الإقدام على صناعة نوعية من هذه الأفلام من ناحية إنتاجية وإخراجية ولكن لم أغفل عن عنصر ثالث مهم وهو النص السينمائي. وتكمن أهميته في الحفاظ على الخط الدرامي في الفيلم والموازنة في مشاهده مع مشاهد القتال. ونجد في الفيلم نقطة قوية في هذا الأمر فلا يطغى جانب على آخر، فنجد ما بين كل مشهد معركة وآخر مشهد درامي فيما بينهما.ولو أردنا التقسيم لوجدنا تسلسل المشاهد كالتالي:
1) مشهد القتال الأول في الغابة متبوع بمشهد توبيخ كوليير لنورمان.
2) مشهد القتال في المدينة متبوع بمشهد الإفطار في منزل السيدة الألمانية.
3) مشهد قتال الدبابة الألمانية المدرعة متبوع بمشهد توقف الدبابة (Fury) عند تقاطع الطريق المطلوب حمايته وقرار الفريق في المضي لأجل المهمة الرئيسية.
النقطة الأكثر الأهمية بالنسبة لي والتي دفعتني لكتابة مراجعتي عن هذا الفيلم هو نورمان. وكيف سلبت الحرب منه براءته من الخوض في الدماء وأجبرته على عمل عكس قناعته وهو عدم المشاركة في القتل حتى أصبح آلة متمكنة في ذلك كما قام بتسميته باقي أعضاء الفرقة. أذكر هذا وهو ليس بغريب أن يصبح نورمان هكذا لأنه الطبيعي والمنطقي وكما ذكر دون كوليير أن ذلك حسبة رياضية بسيطة فإما أن تقتل أو تُقتل في الحرب ولكن أكتب بكل آسى أن تجبرك الحرب على التنازل عن انسانيتك وكسرها فضلًا عن آخرين أضاعوها. وهذا ما حاول دون أن يوصله كرسالة لنورمان ولعل الرساله الأهم كانت في المشهد الذي استوحيت منه عنوان مراجعتي ““Ideals are peaceful. History is violentوذكر فيه دون كوليير أن المثاليات تؤدي إلى السلام ولكن التاريخ عنيف. وهنا أفكر بالفعل كم من دماء أريقت على مدار التاريخ البشري وبل أكاد أجزم أنه إذا جمعنا عدد القتلى على مدار هذا التاريخ – ان استطعنا الإحصاء – لوجدنا الملايين يقتلوا في الثانية جراء الحروب. وفي النهاية لماذا؟ السلطة والنفوذ والموارد الطبيعية من نفط وغيرها وحروب دينية وطائفية وجنون في التمكن والتوسع والتمدد في أقاصي الأرض والبلاد لأشخاص كهتلر ونوبليون وغيرهم من الذين يدفع البشر ثمن حماقتهم وغرورهم. وهنا اسمحوا لي باقتباسة كلام أحد المفكرين العرب عندما ذكر كيف أن الإنسان يثبت كل يوم قول الملائكة لله تعالى في الآية الكريمة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) وكأن الملائكة تشير إلى غريزة الإنسان الأساسية في القتل وسفك الدماء ما لم يتم ضبطها لتأتي الآية التي تتبعها (وعلم آدم الأسماء كلها) في إشارة من الله على أن هذه الغريزة لا تضبط إلا بالعلم.” وبالفعل إذا ما راجعنا التاريخ سنجد دولة مثل اليابان على سبيل المثال جربت وتجرعت قسوة الحرب وقررت أن تستبدل الحرب بالعلم والبناء والنتيجة بلد مسالم ومستقر ومتحضر ومتطور ومثلها ألمانيا نفسها التي أذاقت العالم مرارة الحرب وغيرها الكثير من الدول. أتذكر أني قبل ثلاثة أشهر تقريًبا شاهدت فيلمًا يتناول أيضًا وحشية الحرب وقسوة الإنسان عندما يبدأ يستبيح كل شي بما في ذلك اغتصاب الفتيات القاصرات في فيلم (Flowers of War) من بطولة النجم كريستيان بيل. ماذا لو بالفعل كانت المثاليات سائدة على مدار التاريخ البشري؟ هل سيكون هناك تاريخ من غير عنف وحرب وقتل وسفك؟ أم أن التاريخ وضُع أصلًا لأجل ذلك؟
إذا ما أردت أن أعود للإستطراد في التشريح الفني للفيلم فإضافة إلى نقطة التوازن ما بين الحرب والدراما في النص السينمائي فنجد أن كل مشهد درامي في محله ويخدم فكرته وبالأخص تحول نورمان، ابتداءً من المشهد الذي يتم اجباره فيه على قتل أول شخص في حياته بعد تعنيف من دون كوليير ومن ثم مشهد الإفطار في منزل السيدة الألمانية والذي كان لا يزال نورمان في شيء من مرحلة التردد في ما يقوم به وخاصة بعد أن يلتقي الفتاة الألمانية إيما ويشعر للحظات أنه قد يكون في حالة سلم يستطيع أن يحب ويُغرم فيها بفتاة فتأتي إجابة القنابل لتقطع الوصال في مشهد هو الأروع بالنسبة لي عندما يخبر فيها جرادي نورمان بكلمات بسيطة بأن هذه هي الحرب في لحظات من الهيجان وعدم التصديق من نورمان. الحوارات في مجملها ممتازة ومتنوعة وتخدم طباع كل شخصية تتخللها الكوميدية والاقتباسات الدينية.
ديفيد آير مخرج لم نسمع به من قبل ولكنك تتفآجأ عندما ترى سيرته الفنية لتجد أنه كاتب لأفلام حركة وجريمة معروفة مثل (The Fast & the Furious)، (SWAT)، (End of Watch) ولكن أبرزها وافضلها وأهمها بالنسبة لي هو نص فيلم (Training Day) الفائز عنه دينزيل واشنطن عام 2002 بأوسكاره الثاني والأول كأفضل ممثل رئيسي. كما أنه أخرج أربع أفلام قبل هذا الفيلم منها اثنين من كتابته. ومجملًا فإن سيرته لا تقارع مخرجين كبار كمًا والأهم كيفًا. ولكن هنا أرفع القبعة لديفيد لإخراجه الذي يجعلك ليس فقط في قلب الحرب العالمية الثانية وإنما حتى في قلب الدبابة التي تحمل الفرقة وزوايا التصوير التي تلتقطهم داخلها. هو لا يقل في رأي إخراجًا عن رائعة ستيفن سبيلبيرج الحربية الدرامية (Saving Private Rayan) وعزاء ديفيد أن سبيلبيرج سبقه في مثل هذا الإخراج وإلا لكان تم التهليل والتصفيق له. الفيلم تم انتقاده من البعض لأنه يحتوي الكثير من مشاهد الدماء والقتل والصلب والدهس ولكن في رأي أيضًا أننا نتحدث عن حرب حدثت وغيرت العالم ومجرى التاريخ فلابد أن تجسد بشكل حقيقي وخاصة أن الواقع كان أكثر بشاعةً وقسوةً.
نأتي للطاقم التمثيلي وعلى رأسهم براد بيت. براد هذا النجم الذي اكمل العام الماضي 50 ربيعًا من عمره وصادف معه حصوله على أول أوسكار له كمنتج بعد أن عانده الذهب ثلاث مرات سابقة كممثل، ما زال ينتقي أفلامه بشكل جيد وتنوع ممتاز محافظًا على لياقته وشكله الجسدي من أجل هذا التنوع والأهم هو المحافظة على موهبته. براد كان حاضرًا بقوة في أدائه كرقيب فرقة حريص على سلامتهم تمامًا كأفراد عائلته خاصةً بعد أن خاض الحروب برفقتهم في أفريقيا وأوروبا، متمسكًا بمنزله الصغيرة (Fury)، متؤلمًا في مشاهد من جراع الحرب ولكن مضطرًا لأن يخوضها وبل أن يُعلم خيره أن يكون جزءً منها كما هو الحال مع نورمان. دون كوليير أو كما هو ملقب في الفيلم (Wardaddy) أو أب الحرب، يجد أبسط صور المتعة في وجبة افطار يأكلها على مائدة السيدة الألمانية دون أن يسمح لأحد أن يُعكر أرجاء هذه المتعة. وأخيرًا رغم إظهاره لقسوته إلا وأنه وبنهاية الفيلم وفي لفتة جميلة من النص السينمائي، نجد أن دون كوليير نفسه يوجد به صفات أعضاء فرقته ولكن موقعه يجبره على الإختلاف، نجده يقوم بترديد اقتباسات دينية من الإنجيل كما هو حال بويد ويشرب الكحول كما هو حال تريني فضلًا عن عنفه الموجود في جرادي وآخيرًا هو خائف كحال نورمان. براد قدم أداء رائع بكل مشاعره ولا أريد أن استبق الأحداث لأقول أنه يستحق ترشيح للأوسكار نظرًا لأن موسم الجوائز لم يبدأ والتنافس لم يشتد ولكن على الأقل هو من الأفضل إلى الآن هذا العام على ما شاهدت.
باقي ممثلي الفرقة كانوا حاضرين في أدائهم لأدوارهم ولعل دور شيا لوبوف هو الأفضل له إلى الآن منذ أن بدأ مسيرته، مايكل بينا ما زالت اختياراته جيدة على الرغم أنه ليس من نجوم الصف الأول، لوجان ليرمان الشاب الذي بدأت تحتضنه هوليوود وقد كان ظهوره الأول في فيلم النجم الكبير ميل جيبسون (The Patriot) عام 2000 وشارك في فيلم دارين آرنوفسكي لهذا العام مع راسل كرو (Noah) كان اختيار موفق في هذا الفيلم مجسدًا تحول الشخصية المطلوب منه بأداءٍ ممتاز وأخيرًا جون بيرنثال الذي أشهد أول أداء له في حياتي. ستيفن برايس الذي أيضًا ليس له ذلك التاريخ الكبير كموزع موسيقي في الأفلام ولكنه كان على موعد مستحق مع الأوسكار العام الماضي عن فيلم (Gravity). ليضع هنا موسيقى أيضًا جيدةولكن أكثرها تأثيرًا كان في مشهد حزن نورمان على وفاة إيما وصراعه مع جرادي.
نقطة آخيرة: أتمنى أن لا يأتي من يقول لي أن هذا الفيلم كالعادة هو إظهار هولييود لأمريكا أنها دائمًا البطلة والمنقذة للعالم وحامية الحريات والمجتمعات لأنه حقيقة هي ساهمت في ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية وبالأخص عندما ألقت بالقنبلة النووية على اليابان. ولأنه أيضًا ببساطة إن لم يكن لديك صناعة سينما قوية فليس من المنطق أن تملي على الأخرين كيف يُظهروا أنفسهم. فالسينما بجانب الترفيه هي أداة رسالة قوية ولكن ليس بالضرورة أن تكون الرسالة صحيحة دائمًا وإذا أردت تصحيحها فعليك بنفس الأداة.
اختم باقتباسة من الفيلم لدون كوليير عن الحرب “It will end, soon. But before it does, a lot morepeople have to die“