طقوس مواسم الفروسية في المغرب
بقلم – محمد بنعزيز
الفروسية ظاهرة صيفية في البوادي المغربية، تجري أطوارها بعد الحصاد في مواسم مخصوصة وهي حلبة للتنافس على عدة اصعدة. يحرص محافظ كل إقليم على تحديد توقيت موسم كل قبيلة وولي بشكل دقيق لكي لا تتزامن. وحتى إن تزامنت يجب أن يكون الموسمان المتزامنان متباعدان مكانيا. كما تقدم المحافظة دعما مثل ثمن بارود الفروسية. ومن البارود اشتق الاسم المغربي للفروسية وهو التبوريدة.
قبل أسبوعين من الموعد يعلن البراح المنادي – في سوق القبيلة وأسواق القبائل المجاورة – عن وقت واسم الموسم، وهو اسم ولي صالح. حينها تبدأ الاستعدادات “للرحيل” أي بناء خيمة ليومين غالبا ما يكونان السبت والأحد.
الموسم عيد ديني وسوق تجاري، في الجنوب يسمى الموسم “الموغار” ALMOGARأي تجمع بشري وسوق. ويتخذ هذا النص من إقليم الخميسات شرق الرباط نموذجا للمراقبة. عادة يبدأ الرحيل صباح الجمعة، وتقيم القبائل خيامها متجاورة في شكل دائرة حول الضريح وساحة الفروسية.
يجري هذا الرحيل المرهق بحماس لدى كبار السن الذين يعرفون الربح والخسارة. الموسم ضروري من وجهة نظر مقيميه من كبار السن خاصة.فالموسم بركة وعز وهو مفيد نفسيا لمن يشمون رائحة بارود الفروسية فتتحسن معنوياتهم.
والخسارة مزدوجة، إذ يفسَّر التخلف عن الرحيل بأن الغائب ليس لديه ما ينفقه وهنا يخسر سمعته. وهناك لعنة الولي، فمن لم يحضر قد يصيبه شر. يحكي ان امرأة منعت ماء بئرها عن زوار الضريح فجن ابنها. وقد يكون العقاب جماعيا للقبيلة التي تهمل موسمها ويحل بها الذل أمام القبائل الاخرى. لذلك يرافق بعض رجال القبيلة أحفاد الولي إلى مقر المحافظة لتأكيد حاجتهم لانعقاد الموسم.
الولي يضر ويفيد القبيلة. وكراماته تثري سمعتها. وقد يكون رزقها الوفير بفضل دعواته التي لا ترد. وهو دفين ارض القبيلة ويمكنها من التموقع على الخريطة مثل “جماعة خميس سيدي يحيى” في إقليم الخميسات.
زوال الجمعة تكون الخيام قد بنيت، ويكون هناك سوق قرب الضريح يباع فيه اللحم والشمع والحلويات التي سيشتريها الزوار. فالحلوى تصير مباركة لمجرد أنها بيعت قرب الضريح. صباح السبت تنطلق العاب الفروسية ويصل ابناء القبيلة من المدن للمساهمة اقتصاديا في الموسم. تقف سيارات رباعية الدفع يقودها مهندسون وأطباء ويدخلون خيام أهلهم محملين بما لذ وطاب. ويقدمون الهدايا للحصول على البركة من حفدة الولي دفين الضريح. وبعد البركة يجري الاستمتاع بـ”الفنطازية”. هكذا تنطق بالأمازيغية وكلما فخمت التاء طاء دل على الفخر بالحدث.
يقدم الفرسان هدية نقدية لأحفاد الولي ويحصلون منهم على البركة وهي شفوية. تقدم البركة في الضريح أو في خيمة أمامه. وتقع الخيمة في نهاية ساحة الفروسية، وهي ارض محروثة تم رشها بالماء تقف في مبتدئها فرق الفرسان، كل فرقة تمثل قبيلة. ويقف حول الساحة آلاف المتفرجين ينتظرون انطلاق الرفقة وتسمى أيضا “الصربة” وهي تحويل وتفخيم للسين في كلمة “السرب”. تنطلق “الصربة” وهي حوالي عشرة فرسان يتقدمون بالتساوي. تمسك يد الفارس بالعنان وتمسك يده الأخرى “بالمدفع” وهو بندقية تقليدية محشوة بالبارود… يحظى الفرسان الذين يقفون على الرِّكاب بينما الخيل تجري بالإعجاب الاكبر. تدوي الزغاريد. الفروسية لحظة حاسمة في العام بالنسبة للفلاح. إنها الانسلاخ من ذهنية الفلاح حصاد الشعير وراعي البقر للانتقال إلى ذهنية الفارس.
يتم الاستعداد لهذه اللحظة البطولية طويلا، فحين يقترب موعد الموسم يشتد اهتمام الفلاح بحصانه. يحتفظ الأغنياء بالحصان عدة سنوات، بينما يشتري الفقراء حصانا في الصيف ويبيعونه بعد الموسم. توضع نقطة حناء على ناصية الحصان ويقص شعره، توجد أحصنة يزيد ثمنها عن عشرة آلاف دولار… ويتم شراء سرج مزين بالدمقس والنواقيس النحاسية لتنغم لحظات العدو…
يتغنى التراث الشعبي المغربية بالفروسية. الفروسية تجلب الشرف والمجد والشجاعة والكبرياء والكرم… وقد صارت بعض قبائل المغرب مشهورة بإتقانها بالفروسية. والحقيقة أن الفروسية شكل سلمي للصراع القبلي. وقد انتقلت للفضاءات العصرية مثل الاعياد الوطنية وحفلات ختان أولاد الاغنياء ومهرجانات المدن، وقد جرى مرة تنظيم مسابقات فروسية في مدينة الصويرة في شاطئ جد مضاء والقمر مكتمل وكان ذلك ساحرا. وفي الكثير من الأحيان توزع جوائز لأحسن فارس وأحسن فرقة فرسان وهي التي تتقدم وتطلق البارود دفعة واحدة.
تغذي حكايات الثقافة الشعبية السلوكات الحالية، تثمنها وتحث عليها. الدليل أنه حين يترشح بعض الفرسان في الانتخابات ينجحون بسهولة. والفروسية تذكر المسنين “بالزمان الكبير” بحنين جارف. ايام خلط السمن والعسل الحر. في ذلك الزمان كان الشبان يحبون الفروسية أكثر من حبهم لهواتفهم الذكية. يردد المسنون أن مائة فارس أفضل من ألف راجل.
ولهذا القول بعد تاريخي لأن استخدام الرِّكاب قد سمح للفرسان بالبقاء مستوين فوق سروجهم فصار الخيالة أخطر من المشاة في الحروب. وتحكي الأغنية الشعبية عن موسم صار “حرْكة” أي غارة. وقد استخدم الموسم كخدعة لجمع الفرسان دون أن ينتبه الاعداء. وقد كانت “الحَرْكة” وسيلة لحكم المغرب. وقد جعل السلطان مولاي إسماعيل 1672-1727م عرشه على حصانه ليسهل عليه تأديب القبائل المتمردة فغلبها. وهذا العمق التاريخي هو الذي يفسر القيمة الكبيرة التي تعطى للفروسية ويجعلها تتخذ أبعادا اجتماعية وسياسية رغم كلفتها.
المهم أنه بعد أن تنتهي فرجة صباح السبت والأحد وقبيل الظهر يتقاسم رجال القبيلة التي تحتضن الموسم فرسان القبائل الأخرى ويستضيفونهم للغذاء. ويحرص كل فارس محلي بأن يستضيف أكبر عدد من الفرسان ليتبعوه إلى خيمته وتربط خيلهم أمامها. ويستحسن ألا تكون الخيمة من شعر المعز كما في سبعينيات القرن الماضي بل خيمة عصرية واسعة عالية من الثوب السميك. وهنا يبدأ استعراض الكرم. فبعد الشاي والحلوى والعسل يظهر الشكل الاعلى للكرم هو الذبيحة المشوية. للإشارة حين تتزامن مواسم الفروسية مع الحملة الانتخابية كما في صيف 2015 يتضاعف الكرم.
الدليل على الكرم هو أن يتذكر الفرسان من تغذوا عنده. الاستضافة اختبار لنساء البيت لإظهار مهارتهن في الطبخ. في القبيلة يوصف الرجل الذي لم يتزوج امرأة حاذقة بأنه “جيفة”.
الفروسية مناسبة اجتماعية وفرصة للتنافس. ومستويات التنافس هي الحصان والخيمة والدمقس والطبخ الدسم. ولهذا التنافس بعد اقتصادي فمن ينفق أكثر من غيره يتفوق. ولكي ينفق عليه أن يطور وسائل إنتاجه باستمرار وخاصة بتكثير البقر لإنتاج الحليب وزراعة الخضر المسقية. وحين يشتعل هذا التنافس يستحسن أن يتراجع الذين لا يملكون ويخفضوا صوتهم…
هذه الكلفة تعيق استمرار الفروسية وتقلص عدد ممارسيها. العائق الثاني مركب ناتج عن تحول مجالي اقتصادي وقيمي. مجاليا هناك كثرة المباني قرب الأضرحة. كما يتسبب تسييج الاراضي في البوادي إلى تقليص الفضاءات الحرة حتى أنه صار على التجار كراء مكان وضع خيامهم في المواسم ومن أشهر المواسم المغربية التي صارت مدينية موسم مولاي عبد الله أمغار جنوب الدار البيضاء (الذي انطلق يوم 7-8-2015 وقد جاءت رشيدة داتي مساعدة نيكولا ساركوزي ووزيرته للتبرك بالموسم). اقتصاديا لا يشتري العقلاء أي المحاسبون خيلا ودمقسا، يشترون بقرات تقدم حليبا وعجولا. تتعارض قيم الفروسية مع قيم اختراق الرأسمالية لنمط الإنتاج الفلاحي التقليدي. ومع الزمن سيضعف حب البقر الحلوب الفروسية كما أضعفتها سيرفانتيس عندما جعل من عجز الدون كيشوت دي لامانشا أضحوكة. الغريب أنه كلما تراجعت قيم الفروسية زاد الحنين إليها.