باحث يرصد القوانين التعسفية التي صادرت الحريات إبان الحماية الفرنسية

0

أكّد معاد اليعكوبي، طالب باحث في التاريخ المعاصر، إنه “قبل 108 سنة تم فرض ما عرف بـ”الحماية” الفرنسية، وطيلة 44 سنة الأولى تعرض الشعب المغربي وقواه الحية للقمع والترهيب والمكر والاحتقار، باستعمال قوانين تعسفية صادرت حقوق وحريات المغاربة”.

تبعا لذلك، خّصص الباحث ورقة تحليلية لمقاربة تلك القوانين التي صادرت حقوق المغاربة، تحديدا الحق في التنظيم والتجمع والتظاهر وحرية التعبير، من خلال رصد جانب من تاريخ انتهاكات الحريات العامة، تاركاً القارئ يستشف الجواب عن سؤالين على الأقل؛ هما: هل استمرت في مغرب القرن الواحد والعشرين؟ وبأية أشكال؟.

وأبرزت المقالة، المعنونة بـ”إضاءة سريعة حول وضعية الحريات بالمغرب في ظل الاستعمار الفرنسي”، أن “المغرب ظل منذ توقيع معاهدة الاستعمار المباشر وإلى حدود منح الاستقلال محاصرا عسكريا، لا يتمتع بأبسط الحقوق الديمقراطية الأساسية، خصوصا بعدما قام المارشال ليوطي بإعلان حالة الحصار العسكري وإلغاء ظهير 24 ماي 1914 الذي يتعلق بتأسيس الجمعيات”.

ولفتت الوثيقة إلى أن “هذا القرار استمر مُفَعَّلاً إلى غاية 25 يوليوز 1925، إذ رفع في بعض المدن (الدار البيضاء، الرباط، وجدة)، ليفرض مجددا في سائر مناطق البلاد خلال شتنبر 1939، في ظل احتكار المقيم العام المطلق لجميع السلط التي خولتها له دولة الميتروبول”.

هكذا، اتخذت السلطات الاستعمارية الفرنسية من الحرب العالمية الأولى ذريعة لفرض حالة الحصار وشرعنة حملاتها القمعية؛ فتم منع التنظيمات النقابية والسياسية من إقامة أنشطتها، ومنع إصدار الصحف المستقلة وعقد التجمعات والتظاهرات الاحتجاجية، وعمل ليوطي بكل حزم على عدم السماح بدخول الجرائد والمجلات من المشرق بدرجةٍ أكبر إلى المغرب، واستثنى من هذه العملية الصحف والمجلات المؤيدة لفرنسا.

وأكد اليعكوبي أن “أحمد تفاسكا يشير في كتابه “تطور الحركة العمالية في المغرب” إلى أنه سنة 1924 رفضت الإقامة العامة الفرنسية السماح لفرع عصبة حقوق الإنسان بوضع ملصقات في بعض المؤسسات العمومية، تتضمن إعلان حقوق الإنسان والمواطن (وهو من الوثائق الأساسية المنبثقة عن الثورة الفرنسية سنة 1789)”.

وينقل الكاتب في هذا الصدد ما جاء في رسالة بعثها ليوطي إلى رئيس وزراء فرنسا لتبرير الرفض: “لا توجد في المغرب، بالفعل، سوى حكومة واحدة، هي الحكومة الشريفية، يراقبها الموظفون الفرنسيون، ولفرنسا في الوقت الراهن ولسنوات طوال دور أولي للقيام به إزاء الأهالي، هو تعليمهم واجباتهم”، ويضيف: “وقبل أن يعرفوا هذه الواجبات لا يمكن إعطاؤهم الحقوق التي من شأنها أن تعرض للخطر وضعيتهم الاجتماعية ومستواهم الثقافي، ويستحيل الآن أن نشرح للذين تحت حمايتنا حقوق الإنسان المطبقة في فرنسا على المواطنين الفرنسيين (…) لأن التشريع المغربي قائم منذ قرون على سلطة السلطان وحده..”.

تبعا لذلك، يتبين من خلال الرسالة أن ليوطي سعى إلى حرمان المغاربة من حقوقهم لأنهم مازالوا “قاصرين” ولم يتعودوا على التمتع بها، باستثناء “المتعاونين” المغاربة وأعيان الجاليات الأجنبية (تجار، صناع كبار ومستوطنون زراعيون…)، حيث قام بضمان تمثيليتهم في “مجلس الحكومة” إلى جانب الموظفين السامين في الإدارة الاستعمارية، من خلال الغرف الفلاحية والتجارية والصناعية، وذلك سنة 1919، وفق المقالة.

ولفت الباحث إلى أنه في “يناير 1924 أصدر اليوطي قرارا يقضي بتأسيس “لجنة الميزانية” تنفيذا لطلب أصحاب رؤوس الأموال الأوربيين”، مستدركا: “استمرت السياسات نفسها بعد مجيء المقيم العام الجديد تيودور ستيغ سنة 1925، فدُعّمت سلطة المستوطنين الزراعيين والصناع والتجار الكبار، واستمر الوضع على ما هو عليه وصولا إلى 1936، سنة صعود “الجبهة الشعبية” للحكم”.

نتيجة ذلك، سيحدث انفراج نسبي، حصلت خلاله الشغيلة الأوربية على الحق في العمل النقابي، وقد تولى في هذه الفترة الجنرال نوغيس المسؤولية على رأس الإقامة العامة، الذي طبق سياسة النار والحديد، فقام بإصدار ظهيرين خلال 1936 و1938 يحرمان المغاربة من الحق في الانتماء النقابي ومعاقبة العمال الأوربيين إذا سمحوا بالتحاقهم.

وبشأن الحق في التنظيم، أوضح الباحث أن “إدارة الحماية الفرنسية منعت تأسيس الجمعيات في البداية، وبعدها فرضت شروطا صارمة للسماح للجمعيات “غير المسيسة” بالنشاط وأصدرت في هذا السياق ظهير 05 يونيو 1933، الذي ينص على معاقبة المسؤولين عن تأسيس جمعيات سرية “بغرامة تصل إلى 2000 فرنك، ويمكن أن تصل إلى 4000 فرنك (…)”.

كما يعاقب الظهير بالسجن لمدة تتراوح بين ستة أيام وبغرامة تتراوح بين 1000 و5000 فرنك كل مسؤول عن جمعية لم يلتزم بقرار حل جمعيته وواصل العمل بها أو إعادة تأسيس جمعية منحلة. بل أكثر من ذلك، تحولت بعض الزيارات العائلية العادية -بموجب هذا الظهير- إلى تهمة “عقد اجتماعات سرية”، التي قادت العائلات إلى إكمال صلة الرحم في الزنزانة.

ودفعت حملات الحصار والقمع الاستعماريين بعض مكونات الحركة الوطنية للجوء إلى التنظيم السري، حسَب الورقة التحليلية، ثم واجهته إدارة الحماية بسياسة الاعتقال والنفي، في وقت عملت بكل الوسائل على تشجيع أنشطة الزوايا الدينية الموالية لها.

ويورد المثال “زاوية درقاوة التي كانت لها فروع في طنجة وتطوان وفاس وتافيلالت وصفرو وبوذنيب وعين الشعير، حيث لعب رؤساؤها دورا هاما في فتح الطريق أمام الغزاة الفرنسيين”. ويضيف أحمد تفاسكا أن بعض الأضرحة كانت تقام داخل حدائق المراقبين المدنيين، مثل ضريح “شرقاوة” في مدينة أبي الجعد.

وبخصوص حرية التجمع والتظاهر، أفادت المقالة بأن “المغرب عرف خلال فترة الاستعمار الفرنسي المباشر حالة استثناء غير معلنة، ففي مارس قام بإصدار ظهير ينظم التجمعات، تم بموجبه فرض عدة شروط “أمنية” من أجل السماح بعقد تجمع، من ضمنها ضرورة التصريح بجميع المعلومات المتعلقة بالاجتماع (التاريخ، التوقيت، المكان، الهدف، العناوين، إلخ…) واشتراط حضور “موظف مندوب”، منحه الظهير المشار إليه صلاحية رفع الاجتماع إذا انزاح عن مناقشة النقط المتضمنة في جدول الأعمال”.

وبتاريخ 29 يوليوز 1935 أصدرت إدارة “الحماية” الفرنسية ظهيرا نص على منع المظاهرات والمعاقبة بالسجن والغرامة كل من يشارك أو يدعو أو يؤطر مظاهرة احتجاجية، وكل من أخل باحترام السلطات الفرنسية أو “الشريفية”، يستطرد الباحث، ومضى قائلا: “وفي يوليوز 1936 سيصدر ظهير آخر يمنع المظاهرات ذات المضمون السياسي أو المطلبي وتنظيم التظاهرات التي تتم في الطرقات العمومية، في حين تم السماح بالتظاهرات الدينية بشروط ‘تقنية'”.

وفي ما يتعلق بحرية التعبير فقد تعرضت هي الأخرى للخنق من طرف الاستعمار وحلفائه، فمن مظاهر ذلك منع إدخال الصحف الأجنبية غير المؤيدة لتوجهات نظام الحماية إلى المغرب، ومنع توزيع المناشير والتعبير عن الآراء المعارضة. وامتد المنع ليشمل الجانب الثقافي أيضا، فعلى سبيل المثال قام الباشا بوشتى البغدادي سنة 1928 بمنع طلبة ثانوية “مولاي إدريس” بفاس من عرض مسرحية Tartufe لمؤلفها موليير بداعي أن المسرح في الإسلام بدعة.

وفي الإطار نفسه، يشير جورج أوفيد، في الجزء الثاني من كتابه الموسوم بـ”اليسار الفرنسي والحركة الوطنية المغربية 1905-1955″، إلى أن الحماية الفرنسية سعت إلى تأمين هيمنتها على جميع الأصعدة، بالارتكاز على فكرة تفوق المستعمر وإمكانية التطور التدريجي والبطيء “للأهالي”، بالاعتماد على وسائل مضبوطة.

“من هنا منشأ نظام تقييدي مفروض على الصحافة والتجمعات العمومية والجمعيات، ومشدد على الخصوص عندما يتعلق الأمر بالمغاربة”، يورد الباحث، ويذكر أن سلطات الاستعمار الفرنسي ألزمت الولاة بعدم تسليم جوازات السفر لأي شخص تبنى مواقف “تزعج” النظام العام، بتعبيره.

وقبلها كانت الإقامة العامة أصدرت ظهيرا يتعلق بالنشر والطباعة، فرض -حسب تفاسكا- ضرورة الحصول على إذن مسبق لإصدار جريدة بالعربية أو العبرية، وأداء مبلغ مالي يتراوح بين 3000 و6000 فرنك، ومنح القائد الأعلى للقوات الاستعمارية صلاحية منع وحجز جميع الصحف التي يعتبر أنها تهدد مصالح فرنسا، وشددت الخناق على الصحف المستقلة الصادرة بالخارج، تضيف الورقة.

وأردف الباحث: “خلال الفترة ما بين 1914 إلى نهاية دجنبر 1928 ارتفع عدد قرارات المنع إلى 7، منها 36 قرارا سنة 1928 وحدها، ومن يناير 1929 إلى فاتح يوليوز 1932 بلغ عددها 170 قرارا، منها 62 قرارا سنة 1930. ومن ضمن الجرائد التي منعت L’Humanité، الجريدة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي، والجريدتان الصادرتان في الجزائر؛ Journal d’Alger وTrait d’union، اللتان منعتا من الدخول إلى المغرب سنة 1924”.

واستطرد الكاتب: “بعد إصدار ظهير 16 ماي 1930 المنظم لسير العدالة في المناطق ذات الأعراف البربرية، والتي لا توجد بها محاكم شرعية، برزت الصحف المؤيدة للحركة الوطنية، فكانت سلطات الاستعمار تسارع لمنعها، فتقوم بتغيير اسمها، كما حصل مع جريدة L’Action du Peuple الصادرة سنة غشت 1933 والتي أصبحت تحمل اسم La Volonté du Peuple، فمنعت مرة أخرى في ماي 1934 بقرار من إدارة الحماية”.

وفي الفترة نفسها سيتم منع جريدة Le Maroc rouge بمبرر ارتباطها بالحزب الشيوعي الفرنسي، تبعاً للمصدر عينه. وفي مقابل منع الصحافة المعارضة، دعمت سلطات الإقامة العامة الصحف المؤيدة لسياساتها، من قبيل : La Vigie Marocaine، L’Echo du Maroc، Le Courrier du Maroc، Le Petit Marocain…”.

لذلك، رافق قرارات منع الجرائد الوطنية قمع رهيب، خصوصا في عهد الجنرال نوغيس، الذي منع جميع الصحف المعارضة، فشملت حملته كلاًّ من: L’Action Populaire وصحيفتي “الدفاع” و”العمل”، وغيرها من الجرائد، حيث صدر ظهير ملكي يفرض الرقابة على الصحف ويلزم تسليم نسخة إلى سلطان المخزن والرقابة قبل عرض الصحيفة للبيع سنة 1937؛ وتلته ظهائر أخرى، من ضمنها ظهير 30 مارس 1939 الذي ينص على عقوبات في حق كل من يقوم بترويج أو نشر أو نقل معطيات عسكرية لم يتم الإعلان عنها عبر القنوات الحكومية الرسمية، مثلما ورد في مقال الباحث اليعكوبي.

وخلص الباحث في نهاية المقالة إلى أن “المغاربة عاشوا خلال فترة الاستعمار الفرنسي المباشر تحت قوانين استعمارية جائرة وظالمة، حرمتهم من أبسط الحقوق والحريات، مثل الحق في التنظيم والتظاهر والتعبير والانتماء السياسي والنقابي”، متسائلا: “فهل يا ترى أدّت الإمبريالية الفرنسية رسالتها ‘‘الحضارية’’ في المغرب؟”.

 

اترك رد