مابريس / الدار البيضاء / محمد محي الدين
تستعيد ساحة السراغنة بدرب السلطان الفداء – الدار البيضاء وهجها المفتقد، وتسري في أنساغها روح المقاومة من جديد، فتحيا مثل العنقاء من رحم الرماد، حين يغدوها باعة الكتب المستعلمة في شهر أبريل من كل سنة، بمعروضاتهم المتنوعة العناوين، والميسرة الأثمان. فتنصب الخيام أياما، وبينها خيمة للثقافة حملت هذه السنة اسم الكاتب والمؤرخ الراحل عبد الهادي التازي، يحج إليها الشعراء والكتاب والنقاد والباحثون عن المعرفة، ليتحلقوا حول موائد الأدب.
والملفت للانتباه في البرنامج الثقافي للمعرض الوطني للكتاب المستعمل المنظم بساحة السراغنة بالدار البيضاء في دورته الثامنة تخصيص العديد من اللقاءات الثقافية والإبداعية لتلاميذ اختلفت مستوياتهم الدراسية. وجاء جلهم من مدارس عمومية، ومن أماكن شعبية مثل درب السلطان، وسيدي مومن…ليحكووا حِكَـايـاتُـهـم التي عَـاشُوها، يُـؤسطِـرُونَهَا…يُـذِيـبُـونَهَا فَـتُـصبِحُ كَطَـلاسِـمِ الـسَّحَـرَة، وليثبتوا أن الحكايات لا تَعِـيـشُ أنْـفَـاسَـهَا الأخـيـرة،لا تشيخ، لا تخـرّف،وأنه مازال للحكاية وَهَجُهَا في هذا الزمن المعولم،وليست مِهْــنَـة للعَـجَـائِـزِ، بل إن الحكاية عندهم شكل سردي يخفف من وَطْـأةِ الزَّمَنِ المُـعَـفَّـن. وليست الحكاية وحدها سواء كانت سيرة ذاتية أو قصة قصيرة…عَبَّارَتَهُم نحو عوالمهم، بل اتخذوا لأنفسهم من أجناس الأدب وأنواعه وسائل للتعبير.كل هذا بحضور وإشراف وتنسيق أدباء وباحثين وجمعيات مثل مختبر السرديات ونادي القلم المغربي … حضورا لمتابعة ولادة الدهشة المغربية التي هي أمل عصيٌّ على الفقد .
ومن بين الأنشطة التي عُنيت بإبداعات التلاميذ، وحظيت بحضور لافت للعديد من المبدعين والنقاد، تلك التي شارك فيها مجموعة من التلاميذ المبدعين المنتمين إلى منطقة سيدي مومن، والذين ينشطون بنادي “مشعل النجاح” بالثانوية التأهيلية “ولادة” بسيدي البرنوصي، وذلك في لقاءين إبداعيين، نظم الأول: صباح يوم الأحد 12 أبريل2015، تحت موضوع: “تجربة العشق في الكتابة”، وتخللته العديد من القراءات عبارة عن مقتطفات من السيرالذاتية، ونصوص قصصية، وشعرية،وزجلية.
وقد شكل الواقع الجغرافي والاجتماعي… الذي ينتمي له هؤلاء التلاميذ مادة خصبة للكتابة، ومنطلقا نحو التخييل، إذ عبرت بعض النصوص المقروءة عن ارتباطها العميق بالمكان، كنص التلميذة مريم السعيدي الذي يسترجع اللحظات (بكاريان السَّكويلة) “هُدمت بيوت الصفيح كلها وتم تجهيزها. وفي وقت وجيز ثم إعمارها بتلك الأعمدة الإسمنتية، مررت ذات يوم بتلك العمارات التي حلت محل الحي الذي شَهد ميلادي، فلاحظت أنه لا يوجد أي شيء دال عليه غير الشجرة التي لطالما شاهدتني مارة بجانبها ناسجة خيوط، تلك الشجرة التي كانت تتسلقها القطط الهاربة من كلاب الحي، الشجرة التي أعرفها جيدا والتي تعرفني، أمر بجانبها فأحس بمناداتها لي كي أنقدها من تلك البنايات التي حجبت أشعة الشمس عنها ومنعت الطيور من التعشيش فوقها…سرت ببطء كي أمثل أمامها، فما كدت أصل حتى خيل إلي أنني وسط حقل بهيج، بجانبه بيت خشبي تحيط به أزهار الياسمين والطيور تنشد بزقزقتها ألحان عذبة فوق الشجرة. شخصت بصري إليها كي أتمعن النظر، لكن هذا الحلم العابر قد تلاشى وهم بالانصراف، ولم تتبق فوق الشجرة سوى تلك الطيور البيضاء التي تعرف باسم “طيرَ بْكرْ”. أشفقت على نفسي واجتاحتني رغبة في البكاء، تمنيت الصراخ بأعلى صوتي. كيف لي أن لا أصرخ وأنا أشاهد بأم عيني الحي الذي نشأت فيه قد تحول إلى بنايات وصار يتجاهلني؛ بل أحسست أنه يطردني وأنه لا مكان لي في أحشائه الضيقة…” وهو المكان نفسه الذي يحضر في نص مريم ريمي بالحمولة الدلالية نفسها “ننتقل من جو الحر والصيف، لنحط الرحال مع فصل الشتاء، حيث ما أروع هبوط المطر، ونحن متكئون داخل المنزل تحت غطاء ساخن، نستمتع بالرنة الموسيقية التي يحدثها المطر على إثر نزوله على السقف القصديري، إلى جانب صوت الرعد وضوء البرق، فو الله إننا لنحس وكأننا في سهرة فنية حيث الإيقاعات والأضواء، والأجمل في الأمر حين تضع أمي الصحون والإبريق والكؤوس والسطل… مقابلة مع ثقب سقف بيتنا فتسمع سمفونية جديدة من إبداع أمي والمطر، مختلفة عن تلك التي اشتهر بها مُوزَار أو بِتْهُوفن، فنجتمع نحن في غرفة أخرى على كؤوس الشاي الساخنة، نراقب ونستمتع للجوق…”
وقدمت التلميذات، فاطمة الزهراء جابر وسلوى لحرش وخديجة المالكي تجربتهم في الحكي الجماعي المتمثل في سيرة ذاتية مشتركة، أما صفاء خلخال فعرفت الحاضرين بطريقتها في الكتابة المعتمدة على وصف وسرد أحداث حياتها انطلاقا من مجموعة من الصور الفوتوغرافية المرفقة بسيرتها الذاتية. وتحدثت التلميذة قمر أمين عن علاقتها بالقلم. في حين نبه التلميذ سفيان حادي في قصة قصيرة إلى موضوع الدروس الخصوصية من خلال قصة تطرقت لمعاناته مع معلمة تفرض دروسها الخصوصية، وألقت التلميذة شيماء سوراوي قصيدة مهداة “إلى الزمن الجميل”، والتلميذ يوسف كطني قصيدته الزجلية “الصورة بين الأمس واليوم”.
وأتاح معرض الكتاب المستعمل الفرصة من جديد لتلاميذ سيدي مومن يوم الأحد الموالي (19أبريل2015)في الساحة 10صباحا، للاحتفال بتوقيع العدد الثاني من مجلة “من وحي الثانوي” التي تضم إبداعات أدبية تنتمي لأجناس مختلفة، حيث قرأ بعض المشاركين في هذا العدد شذرات من نصوصهم كالتلميذة خديجة المالكي التي تحدثت عن إدمانها الكتابة: “لطالما حاولت الانقطاع عن إدماني هذا لكن دون جدوى تذكر…هذا الكتاب ذو الصفحات البيضاء الفارغة وهذا القلم الممتلئ بالحبر الخالص يستهويانني، يستدرجانني إلى أعماق المحيط وإلى المستنقعات ويطيران بي لغزو الفضاء، فما أكاد أنفك أنفلت من قبضتيهما حتى أجد نفسي بين يديهما وتحت رحمتهما لا حيلة لي سوى السمع والطاعة، إنهما يطبقان علي قوانين الجاذبية السردية نحو الأعلى، وإن كان إسحاق نيوتن لن يقبل هذا!؟ إنهما مغناطيسيان يجذبانني وكأني أنا الكرية الفولاذية، فبالرغم من ثقل الكرية وكبر حجمها فالمغناطيس بصغر حجمه وضآلته يغير مسار الكرية ويتحكم بها ويعبث بها أنى شاء، كل منهما يقودني نحو هدف واحد ألا وهو فعل الكتابة، فهذا الكتاب الفارغ يناديني: احملي القلم، احملي القلم وسودي هذه الأوراق البيضاء بالحبر، بالسرد الرائع، بالقصص والحكايات الشيقة الممتعة…”. وهو الموضوع نفسه الذي يلهب قريحة التلميذة وسيلة مستعيد حين تبوح “أجل لقد وقعت في الحب لأول مرة وأنا لا أخجل من قولها، ولكن الغريب في الأمر هو من وقعت في حبه، فهو ليس إنسانا ولا حيوانا، وإنما هو مجرد جماد أوقعني في شباك سحره دون غيره، إنه عشيقي الوحيد الذي وفور أن أمسكت به أخذني إلى بحر من الخيال وعالم فاتن بجماله الأخاذ، لم أستطع أن أخرج منه وكأنني عالقة في مستنقع من الوحل، كلما حاولت أن أفر وأنفذ بريشي كنت أغرق أكثر فأكثر…فشكرا لك أيها القلم على صداقتك الطيبة طوال كل هذه السنين وشكرا لك أيضا يا أيتها الكتابة على ما قدمته ومنحته لي، ولك أيضا يا أيها الكتاب لأن فضلك علي كبير…”. وقرأت مريم السعيدي نص “المعلمة”، وابتسام لمضاربي نصها “شعور غريب”، ودنيا كنون “ذاكرة النسيان”، وأميمة عميمي “ينبوع من نهر الحياة”، وشروق أبا علي نصا أهدته لوالدها الراحل.
كما عرف هذا الحفل مشاركات شعرية للتلميذتين: وئام فقير،وزينب معزوز، وقراءة قصص من الخيال العلمي للتلاميذ: حسن إبالين(حلم غريب)، ويوسف كطني (خالد والكاميرا)، وشيماء سوراوي(الفضائي الضائع). ومشاركة تلميذين آخرين من سلك الابتدائي هما: سفيان الذهبي بقصيدة شعرية، ومريم حليفي بنص رحلة إلى أزمور.
وتميز الحفلان معا بحضور العديد من النقاد والمبدعين والباحثين وأطر التربية والتكوين وجمهور غفير ، حيث ساهم الجميع في إثراء النقاش حول قضايا الإبداع في أدب الأطفال، وكيفية تحفيزه، وأهمية انفتاح المؤسسات التعليمية على محيطها، وتفعيل صلات الشراكة بينها وبين مختبرات الدراسات في الكليات، ومعارض الكتاب، ودور النشر…