7 أشهرٍ من الدم والنار يرويها ضابط أمريكي في العراق
كشف أحد ضباط العمليات الخاصة في البحرية الأمريكية تفاصيل المهمة التي كُلفوا بها خلال الحرب الأمريكية على العراق ، وأقرّ راسل وورث باركر، الضابط في البحرية الأمريكية، بأن مهمتهم اكتنفها الكثير من العنف «بلا هوادة».
ضابط العمليات الخاصة قال في تقرير نشرته صحيفة The New York Times الأمريكية: «كانت 7 أشهرٍ من الدم والنار والزجاج المكسور»، وأوضح أنهم خلال الحرب الأمريكية على العراق كلفوا بمطاردة أفرادٍ معينين والإمساك بهم»، وأضاف: «استخدمنا المتفجرات البلاستيكية لدخول المنازل العراقية في الساعات المظلمة، وكنا نتدفق خلالها مثل الطوفان، ونستهل دخولنا كل غرفة باستخدام قنابل وامضة تشعرك بنفس شعور تلقي لكمةٍ في الرأس إذا لم تكن هناك مسافةٌ كافية بينك وبينها. قاتلنا في بيوت أعدائنا، بين عائلاتهم».
مهمة البحث عن زارعي العبوات الناسفة في الحرب الأمريكية على العراق
كان لديّ في العراق جهاز يسمى Phraselator، مخَصَّص لترجمة العبارات، وهو نموذج غير عملي من التكنولوجيا العسكرية يعود لعام 2004، يجمع في شكله بين أي جهاز اتصال لاسلكي فاخر والجيل الأول من المفكرات الإلكترونية PalmPilot. كان الجهاز مثلي ومثل كل الأشياء في حياتي وقتها، مصبوغاً بسمرة الصحراء ومدرَّعاً للحماية من المعاملة القاسية.
وكان يسمح لمشغِّله باختيار عباراتٍ إنجليزية من شاشة صغيرة مضاءة باللون الأخضر، ثم الضغط على زرٍ لينطقها باللغة العربية للمستمع. أُصدِر الجهاز بالأخص لقوات الجيش في غرب العراق، في عجلةٍ مدفوعة بالنوايا الحسنة، لكنَّنا لم نتلقَّ أي تدريبٍ على كيفية استخدامه. لجأتُ إليه ببساطة لأنَّني حصلت عليه، وعلى الرغم من ذلك لم أستخدمه إلا مرةً واحدة.
راسل وورث باركر، الضابط في البحرية الأمريكية/ نيويورك تايمز
كنا خلال الحرب الأمريكية على العراق مكلفين بإلقاء القبض على رجالٍ كانوا يزرعون عبواتٍ ناسفة في منطقة تمركزنا بمحافظة الأنبار، أو قتلهم إذا لم نتمكن من القبض عليهم. وبعد يومٍ طويل آخر من الفشل في الإمساك بأي منهم، قررتُ استخدام ظلام الليل للانتقال ومطاردتهم في مكانٍ آخر في اليوم التالي. وعندما أشرقت الشمس على موقعنا الجديد، كشفت عن منزلٍ واحد على بعد حوالي 400 متر إلى الجنوب من موقعنا.
كان المنزل يقع بين التلال الصحراوية المنخفضة، وكنا لا نستطيع رؤيته بوضوح بسبب ضبابية نظارات الرؤية الليلية. كان المنزل صغيراً وبسيطاً، عبارة عن 4 جدران يغلب عليها اللون البني الرمادي، وتخترقها نوافذ صغيرة وسقف مسطح وباب واحد خرج منه رجل يرتدي زي الشرطة العراقية. وسار نحونا.
بالتعاون مع رجال الشرطة العراقية
بصفتي قائد الكتيبة كانت مهمتي هي التعامل مع أي أفرادٍ نلاقيهم من الشرطة العراقية. كان جنود مشاة البحرية يحيطون بي من الجانبين بشكلٍ غير منظم، لكنَّهم مستعدون للعنف الذي يمكن أن يكتنف أي مواجهةٍ في الأنبار. كنَّا نحدق في بعضنا البعض. سلَّمتُ عليه باليد وألقيت عليه التحية بلغتي العربية التي لا أتقنها. ابتسمتُ له وابتسم لي؛ كان كلُّ واحدٍ منَّا يحاول إثبات نيته الحسنة. ثم تذكرت جهاز Phraselator.
ركضتُ إلى سيارتي الهامفي العسكرية، وقمتُ بالتفتيش سريعاً في حقيبتي قبل أن أعود إلى رجل الشرطة مبتهجاً، لكنَّني لم أستطع حتى تشغيل الجهاز. حاولتُ متعثراً التوصل لشيءٍ من خلال القائمة، ووجدتُ فقط تعبيرات تحية وتعبيرات محادثة غير متناسقة، وقبل أن أفقد الأمل وجدتُ خياراً في القائمة يسأل ما إذا كان الرجل بحاجة إلى الرعاية الطبية.
نطق الصوت الحاسوبي السؤال باللغة العربية. رد رجل الشرطة بنصف ابتسامة متحيرة. ربما لم يستطع فهم السبب وراء حصوله على هذا العرض بعينه من فردٍ من مشاة البحرية الأمريكية يرتدي أكثر من 20 كيلوغراماً من الدروع والأسلحة، ويحمل صندوقاً حاسوبياً يصرخ بالعربية.
جربتُ بضع عباراتٍ أخرى بينما كان يقف على نحوٍ محرج، مثل أي شخصٍ مضطر للدخول في حديثٍ مهذب مع شخص مخمور في حفلة. وأخيراً أومأ برأسه، واستدار وسار عبر الصحراء إلى منزله. انتهى هذا اللقاء، وغمرني شعورٌ كما لو أنَّني فشلتُ في أحد الاختبارات المهمة.
بعدها بأربعة عشر عاماً من الحرب الأمريكية على العراق ، بعد أكثر من عقدين من الخدمة العسكرية، ما زلتُ أجد نفسي متعثراً عندما أحاول التحدث مع الناس عن تجربتي، كما لو أنَّني أقف مرةً أخرى أمام شخصٍ غريب، وأضغط على أزرار آلة لا أفهمها، في محاولةٍ عبثية للعثور على عبارةٍ مفيدة قد تجسر فجوةً دائمة الاتساع بيني وبينه.
7 أشهرٍ من الدم والنار والزجاج المكسور
قبل أن أذهب للحرب بوقتٍ طويل، كنت قد قرأتُ رواية غاي ساجر عن خدمته كرجلٍ فرنسي جُنِّد في الجيش الألماني لمحاربة الروس أثناء الحرب العالمية الثانية. كتب ساجر في إحدى الفقرات قائلاً: «جاء يومٌ كنت سأموت فيه، وبعد ذلك لم يعد هناك أي شيءٍ مهم بالنسبة لي. لذلك بقيتُ كما أنا، بلا ندم، منفصلاً عن الحالة الإنسانية الطبيعية».
ينتابني هذا الشعور في بعض الأحيان. يبدو الأمر كما لو أنَّ الوقت الذي قضيته في تلك المساحة الصحراوية جعلني أتحدث بلغةٍ مختلفة عن زملائي الأمريكيين، وهي لغة لا تبدو لها ترجمة في بعض الأحيان.
سألني صديق طفولتي عند عودتي من العراق قائلاً: «لم تشتبك فعلياً في أي قتالٍ حقيقي هناك، أليس كذلك؟». شعرتُ بالإهانة كما لو أنَّه قام وصفعني على وجهي. شعرتُ بأنَّ هذا السؤال تحديداً يقلل من شأني. ورددتُ عليه بشدة قائلاً: «بالطبع كنت أقاتل.. ما الذي ظننت أنَّني كنت أفعله خلال السنوات العشر الماضية؟».
أوضحتُ له أنَّنا كُلفنا خلال الحرب الأمريكية على العراق بمطاردة أفرادٍ معينين والإمساك بهم، ما جعل مهمتنا يكتنفها العنف بلا هوادة. استخدمنا المتفجرات البلاستيكية لدخول المنازل العراقية، وكنا نتدفق خلالها مثل الطوفان، ونستهل دخولنا كل غرفة باستخدام قنابل وامضة تشعرك بنفس شعور تلقي لكمةٍ في الرأس إذا لم تكن هناك مسافةٌ كافية بينك وبينها.
قاتلنا في بيوت أعدائنا، بين عائلاتهم. نقلتُ له أجواء نشوب معركة بالأسلحة النارية داخل أحد المنازل. وكيف أنَّ صوت إطلاق النار من أسلحةٍ أوتوماتيكية في غرفة صغيرة يكون مرتفعاً للغاية لدرجة أنَّ هذا الصوت يشوش التفكير الواعي للإنسان، تاركاً الذاكرة العضلية وليدة التكرار التلقائي لتحدد من يعيش ومن يموت.
كانت 7 أشهرٍ من الدم والنار والزجاج المكسور. بدا صديقي منزعجاً من الحديث، وبعد فترةٍ من الصمت غيَّر الموضوع. إذا كان أحد الأصدقاء الذين نشأتُ معهم، والذين يعرفونني جيداً، لا يمكنه أن يفهم، أو لا يرغب في فهم ما كنت أقوله، فكيف لي أن آمل في توضيح ذلك لأي شخصٍ آخر؟
وكانت هذه حصيلة الوحدة الخاصة للبحرية الأمريكية
في طريق عودتنا من العراق، جُمعنا في خيمةٍ في الكويت، وقُدِّمت لنا استماراتٌ طلبت منَّا توضيح التجارب التي مررنا بها من خلال تظليل دوائر الإجابة بجانب الأسئلة. كان من ضمن الأسئلة: هل رأيتَ أمريكيين مصابين؟ نعم. هل رأيتَ أمريكيين مقتولين؟ نعم. هل رأيت عراقيين مصابين؟ نعم. هل رأيت عراقيين مقتولين؟ نعم. هل أُطلقت عليك النيران؟ نعم. هل أطلقت النار على أي شخص؟ نعم.
سلَّمنا الاستمارات، ثم تجولنا في المعسكر، وكانت السواتر الرملية الضخمة تعيق حركتنا، ولم تكن هناك الكثير من الأمور التي نستطيع القيام بها سوى تناول الطعام والتحديق في تماثيل عرض الملابس النسائية الرقيقة التي يبيعها التجار الكويتيون. لم يحدثني أحد عن هذه الاستمارة مرة أخرى. وما زلتُ لا أعرف الغرض منها. كانت هذه أول مرة من بين مناسباتٍ عديدة يسألني فيها أحدٌ عن قصتي، ولكن لم يبدُ أنَّه يعرف ماذا يجب عمله بالإجابات.
بعد أن قضينا أغلبية فترة الخدمة في العراق في تنظيف أنفسنا تحت ماسورة مياهٍ باردة واحدة، استفدنا من مقطورة استحمام قريبة مخصصة فقط لمشاة البحرية الدائمين في الكويت. دخل اثنان من جنود مشاة البحرية ونحن نستمتع ببخار الدش الدافئ. وطالبنا أحدهم بالمغادرة.
لم يتفوه أحدٌ منَّا بكلمة واحدة، لكنَّ النظرة التي كانت في أعيننا أخبرتهما بالتأكيد عن مدى البؤس الذي كنَّا فيه؛ لأنَّ رجل البحرية الثاني أمسك بذراع الأول وقال له بكل بساطة: «تراجع يا رجل، لقد كانوا في الشمال»، وتركونا وأنفسنا.
حتى قبل مغادرتنا المنطقة، حتى بين زملائنا من مشاة البحرية، أصبحنا بالفعل منفصلين. تساءلتُ كيف سنوضح للناس في بلادنا الأشياء التي قمنا بها باسمهم. لكنَّني تمسكت بفكرة أنَّ هناك قيمة في العمل الذي نقوم به؛ قيمة بالنسبة لي، وآمل أن تكون مهمةً أيضاً بالنسبة للأشخاص الذين أتحدث إليهم.
لكن ماذا بعد العودة إلى أمريكا؟
عند عودتنا إلى معسكر ليجون بولاية كارولينا الشمالية، سُمح لنا بالخروج لقضاء ليلة مع عائلاتنا. لم أتمكن من النوم، وأيقظتُ زوجتي في الساعة الثانية صباحاً، وجعلتها تشاهد فيلم Napoleon Dynamite، وهو فيلم انقسمت حوله كتيبتي بشدة لدرجة أنَّني اعتقدتُ أنَّنا سنتبادل الضربات بسبب السخافات الواردة فيه.
كنتُ أريدها أن ترى وتفهم شيئاً عن الأشهر السبعة السابقة من حياتي. لم أكن أعرف كيف أحكي لها عن طفلٍ يبلغ من العمر عامين يتلَّمس خطاه عبر زجاج النوافذ المحطم بسبب عبوةٍ ناسفة، تاركاً آثار قدم صغيرة ملطخة بالدم على أرضية منزله الخرسانية. وفي وقتٍ لاحق صباح اليوم التالي، تجمَّع أكثر من 100 من أفراد مشاة البحرية في آخر تشكيل للوحدة خلف مبنى كبير من الطوب يفصله نهر عن ساحةٍ للتفجير. وقبل أن ننصرف للمرة الأخيرة كمجموعة موحدة، قام بعض مشاة البحرية بتفجير كميةٍ كبيرة من المتفجرات في الجانب الآخر من النهر.
أجفلنا بأعيننا بشكلٍ واضح، ونزل بعضنا على الأرض؛ لقد تكيف الجميع على تفادي الشظايا والنيران التي كانت تصاحب الانفجارات المدوية خلال الحرب الأمريكية على العراق . نظرنا حولنا إلى بعضنا البعض وضبطنا وقفتنا رويداً رويداً، وضحكنا على أنفسنا ونحن نشارك بعضاً البعض مستوًى من الفهم أصبح منذ ذلك الحين صعب المنال.
ومن المفارقات، أنَّ هذا الفهم المشترك هو أكثر ما نحتاج إليه من بعضنا كمحاربين قدامى، وهو الأمر الذي يجعل البعض منَّا يعيد تواصله بشكلٍ فعَّال مع المدنيين، وهو عامل حاسم بينما نصبح نحن أيضاً مدنيين. إنَّ فكرة ساجر عن الانفصال عن الحالة الإنسانية الطبيعية، على الرغم من ادعائه أنَّه لا يشعر بالندم، لا تعدو نوعاً من المنفى الاختياري.
مثلما شعرتُ عندما وقفت أمام ذلك الشرطي العراقي، من مسؤوليتي أن أتحدث، لأجد نوعاً من التواصل. أطلب منكم فقط ألا تصابوا بالإحباط أو تشعروا بالحرج وتنصرفوا إذا كانت الترجمة متعثرة، أو إذا اتضح أنَّ الحقيقة أكثر مما كنتم تريدون.
The post 7 أشهرٍ من الدم والنار يرويها ضابط أمريكي في العراق appeared first on عربي بوست — ArabicPost.net.