هل الكون مادي.. أم مجرد فكرة في عقل الإنسان؟!

0

لعبت الفلسفة قديماً وحديثاً دوراً مهماً في تفسير الحياة الإنسانية وفي تحديد وسائل الحصول على المعرفة الحقيقية Epistemology ومصادرها. إلا أن الكثير من الناس كانوا ولا يزالون لا يثقون بما تقدمه الفلسفة من معارف للإنسان. بالرغم من أن الاكتشافات العلمية الأخيرة ربما تؤكد على صدق الفلاسفة في كثير من الأمور التي طرحوها في مجالات المعرفة فيما يخص الإنسان ذاته والكون عموماً! فإن من أهم الطروحات الفلسفية هي انعدام الوجود المادي للكون والإنسان، وأن هذا الوجود ما هو إلا وجود فكري Thought Stuff- من صنع عقل الانسان! ورغم أن ها الطرح يبدو غريباً، بل قد يكون صادماً للعقول ومنافياً للحقيقة برأي معظم البشر، فإن الاكتشافات العلمية الحديثة وخاصة في مجال الفيزياء، ربما تسهم في اقتناع الناس بصدق دعاوى بعض الفلاسفة فيما يخص الكون والانسان، أو على الأقل تحرضهم على المزيد من التفكر والتفكير. ولا ننسى أنهم قاوموا حقيقة كروية الأرض فترة طويلة!

جورج باركلي George Berkeley

فهذا الأسقف والفيلسوف الإيرلندي جورج باركلي George Berkeley (1685-1753)، الذي يعتبر من رواد الفلسفة اللامادية immaterialism، يؤكد أنه لا يوجد أي دليل تجريبي حقيقي لوجود المادة (Matter) على الإطلاق، طالما أننا لا نواجه (نجرّب) هذه المادة مباشرةً، أو حتى بشكل غير مباشر. فمثلاً لو أن أي إنسان وجد قطعة من العقيق على شاطئ البحر، فإنه سيدرك لونها، وصلابتها، وشكلها وإحساسات أخرى عنها، ولكن هذه الإحساسات التي أدركها، أدركها بعقله، ولم تكن هناك مادة طبيعية حقيقية ليدركها لولا هذه الانطباعات الحسية! أي أنه لو لم يكن هناك الإحساس العقلي باللون والحجم والملمس والصلابة في قطعة العقيق، لما أدركها الإنسان أبداً. فالمادة لا توجد إلا إذا كان هناك من يدركها حسب مبدأ باركلي الذي يقول: «الوجود هو الإدراك الحسي، To be is to be perceived». وعليه فإن الموجودات في هذا الكون بالنسبة لجورج باركلي ما هي إلا العقول البشرية المحدودة، إضافة إلى التصورات والأحاسيس الموجودة في هذه العقول أولاً، وثانياً عقل الله اللامحدود (حسب قوله) الذي يدرك كل شيء لا يدركه الإنسان. وباعتبار دور الله، فكل المادة موجودة لأن الله يدركها جميعاً ويحفظها، عكس الإنسان ذي العقل المحدود الذي يدرك بعض الأشياء فقط! وخلاصة فكر باركلي في هذا المجال أنه لا وجود في هذا الكون إلا للعقول وأفكارها، فالأجسام والمادة الطبيعية التي ندركها كبشر، لا توجد خارج العقل بشكل مستقل بذاتها أبداً. وعليه فإن العالم الطبيعي – الكون – ليس إلا نوعاً من مادة الفكر (thought-stuff) يوجد في عقل الإنسان، ولا وجود مادياً له خارج هذا العقل!

دافيد هيوم David Hume

أما الفيلسوف الأسكوتلندي دافيد هيوم David Hume (1711–1776) فقد تجاوز القس جورج بيركلي كثيراً برفضه حتى وجود الذات الفردية. أي أنك – كإنسان – غير موجود مادياً! فدافيد هيوم يؤكد أن الإنسان عندما يلتفت إلى داخله ليرى ذاته ويتعرف عليها، فإنه لا يجد ذاتاً أو عقلاً أبداً. بل كل ما يجده هو مجموعة من الأحاسيس والأفكار والمشاعر والإدراكات، ومنها الإحساس بالحرارة والبرودة أو الشعور بالحب أو الكراهية أو الألم والسرور… إلخ، ولكن ليس هناك عقل أو ذات تحتوي هذه المجموعة من الأحاسيس. ويدلل هيوم على عدم وجود الذات أو العقل بأن النائم نوماً عميقاً لا يشعر بوجوده بسبب عدم وجود الأحاسيس والإدراكات التي كانت موجودة أثناء صحوه! وبعد زوال كل الأحاسيس والإدراكات والأفكار في حالة الموت، فإننا نتأكد أن الإنسان يصبح لا شيء! دافيد هيوم يؤمن جازماً ألا وجود إلا للأحاسيس أو التصورات Perceptions، وينكر وجود النفس (الذات self) أو العقل الذي يحتويها. ويعتقد هيوم أن هذه الأحاسيس تشبه النجوم والكواكب التي تدور في المجرة دون أن تحتويها المجرة، علماً بأن المجرة لا وجود لها بدون هذه النجوم! وكذلك الحال بالنسبة للأحاسيس التي تدور في فلك مترابط دون أن تكون في حاوية «مكان» معين، كالعقل أو الذات مثلاً، وعليه فوجود الإنسان مرتبط فعلياً بوجود هذه الأحاسيس، وبدونها فلا وجود له، كحال المجرة بلا نجوم!

إيمانويل كانت Emanuel Kant

أما الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت Emanuel Kant (1724-1804) فقد أكد أن الزمان والمكان والسبب والنتيجة لا توجد خارج العقل البشري! أي أن العقل اخترع هذه الفئات أو القنوات الحسية الإدراكية Categories of Perception لتنظيم الأحداث التي تحصل للإنسان. فلولا اختراع فئة الزمن من قبل العقل البشري، لبدى للإنسان أن الأحداث تحدث كلها في وقت واحد، ولكن الأمس واليوم والغد، وبقية ظروف الزمان مثل الآن، وقبل، وبعد نظمت الأحداث الحياتية وجعلت لها معنى وكيان! وكذلك المكان، فلو لم يخترع العقل المكان، لظهر للإنسان أن كل تجاربه تحدث في مكان واحد ولضاع ترتيب الأحداث ولربما فقدنا المعنى للتجارب البشرية. إذاً فخلق العقل للزمان والمكان يتفق مع وجهة نظر باركلي وهيوم وفلاسفة آخرين لم نذكرهم بأن الكون مادة فكرية.

الفيزياء

وبعد التطور غير العادي لعلم الفيزياء من الفيزياء الكلاسيكية إلى الفيزياء الذرية وأخيراً فيزياء الكم Quantum Physics، التي أثبتت ما ذهب إليه بعض الفلاسفة في أن الكون ليس كتلة مادية كما كنا نتصوره لآلاف السنين، بل هو مكون من مادة فكرية داخل عقول البشر! وطالما أن مجال الفيزياء أولاً وأخيراً هو دراسة المادة الطبيعية physical matter، فقد بدأت الفيزياء الحديثة مع إسحاق نيوتن حيث كانت تقسم المادة إلى ثلاثة أشكال: الصلبة والسائلة والغازية. وكانت المادة تعمل حسب قوانين ثابتة لهذه الأشكال المادية. ثم تطور علم الفيزياء لتأتي الفيزياء الجزيئية/الذرية molecular/atomic physics والتي تثبت أن المادة تتكون من جسيمات متناهية في الصغر تسمى الجزيئات، والتي تتكون بدورها من جسيمات أصغر يطلق عليها الذرات.

الفيزياء الذرية Molecular/Atomic Physics

وكما هو معروف فإن الذرة تشبه في شكلها وضع المجموعة الشمسية، حيث النواة nucleus التي تتكون من نيوترونات وبروتونات تستقر في المركز، وتدور حولها الإلكترونات السالبة في مدارات يبعد بعضها عن النواة عدة أمتار، وأخرى مئات الأمتار ومدارات أخرى تبعد آلاف الأمتار! آلاف الأمتار في هذا الحجم «الذري» أي المتناهي في الصغر! ولقد قُدّر حجم كتلة النواة، أي المادة، بالنسبة إلى الفضاء الذي تدور فيه الإلكترونات، بحجم كرة بيسبول معلقة في الهواء وسط ملعب ضخم لكرة البيسبول! ما يؤكد أن كل الأجسام المادية التي نراها ونعايشها في هذا الكون من جماد ونبات وإنسان، تتكون من فراغ (فضاء) واسع، وما المادة الطبيعية فيها إلا جزء متناهٍ في الصغر!

فيزياء الكم Quantum Physics

ومع التطور الهائل في علم الفيزياء، فإن فيزياء الكم Quantum Physics تثبت صحة ادعاءات بيركلي وهيوم وغيرهم من الفلاسفة بأن الكون ليس مادياً، بل إنه مادة فكرية في عقل الإنسان فقط! فقد اتضح أن الأجسام المتناهية في الصغر، والتي سمّيناها جسيمات، وهي الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات ماهي إلا كميات من الطاقة Quanta of Energy وليست جسيمات مادية، لذلك سميت فيزياء الكم Quantum Physics حيث إن كلمة كمية تعني باللاتينية Quantum وجمعها باللاتينية Quanta! وبوجود كميات الطاقة هذه بدلاً مما كان العلماء يسمونها الجسيمات والذرات subatomic particles، فإن كتب الفيزياء والكيمياء بدأت برسم سحابات من الطاقة Clouds of energy بدلاً من الذرات لتمثل المجموعة الشمسية المصغرة التي تمثلت في الرسم السابق. ولا تعتبر فيزياء الكم كميات الطاقة هذه موجودات مادية أبداً، ولكن تعتبر أن لها احتمالات probabilities أو ميول للوجود في زمان ومكان معينين. في عصر فيزياء الكم لم تعد المادة الطبيعية موجودة كما كنا نعرفها وكما اعتقدنا لآلاف السنين، بل أصبحت احتمالات وسحابات أو كميات من الطاقة مع نزعة للوجود!

يقول الفيزيائي الإنكليزي البارز السير جيمس جينز (1877-1946): «كلما تعلمنا أكثر عن الكون المادي، كلما قلّ تماثله مع آلة عظيمة، وكلما زاد تشابهه مع فكرة عظيمة». وهذا الكاتب والمسرحي الإنكليزي الأشهر يقول في مسرحية «العاصفة The Tempest, Act 4 Scene 1»: «نحن تلك المادة التي تُبنى عليها الأحلام وحياتنا القصيرة يلفها النوم». أي أن حياة البشر كالأوهام التي نراها في الأحلام!».

وأخيراً يتبين أن آخر ما توصل إليه الإنسان من العلوم الحديثة خصوصاً الفيزياء الذرية وفيزياء الكم تدعم وجهة نظر بعض الفلاسفة في أن الكون مادة فكرية وليس مادة طبيعية! ما يثبت أن الفلسفة في كثير من الأحيان اعتمدت على طرق عقلية وتجريبية موثوقة ضمن نطاق ما يسمى نظرية المعرفة Epistemology لاكتشاف حقيقة العالم الذي نعيش فيه، إضافة إلى اكتشاف جوهر النفس البشرية وهذا موضوع بحث آخر.

المصادر

جورج باركلي

مصدر دافيد هيوم

مصدر إيمانويل كانت

مصدر الفيزياء

The post هل الكون مادي.. أم مجرد فكرة في عقل الإنسان؟! appeared first on عربي بوست — ArabicPost.net.

قد يعجبك ايضا

اترك رد