هذه الصورة التقطها لي جمال خاشقجي منذ 25 عاماً
أثناء الجلوس داخل مطبخي بإحدى الضواحي في الولايات المتحدة، من اليسير الشعور بأنَّ المملكة العربية السعودية بعيدة للغاية، وأنَّ الأحداث الجارية في القنصلية السعودية بإسطنبول رغم بشاعتها المزعومة لا علاقة لي بها.
بخلاف شيءٍ واحد.
منذ 25 عاماً تقريباً، كان جمال خاشقجي صديقاً ومرشداً لي حينما كنتُ مراسلةً صغيرةً باليمن في منحة لدراسة الحركات الإسلامية. تمكنتُ من رؤيته وهو يعمل، واختبرتُ طيبته وحكمته اللافتتين للنظر. لقد غيَّر حياتي وربما يكون قد أنقذها.
في عصرٍ تتكرر فيه الصور النمطية الثقافية كثيراً، وأبرزت فيه حركة #MeToo مدى انتشار السلوك السيئ، كان جمال خاشقجي رجلاً نبيلاً، ومرشداً فطناً مميزاً دائماً في وقتٍ وزمانٍ محوريين.
كانت تلك السنوات قبل أن تغير أحداث 11 سبتمبر/أيلول العالم. في النصف الأخير من عام 1994 الذي حمل أحداثاً خطيرةً ومقلقةً، كان للإسلاميين -كان الكثير منهم قد خرج للتو من معسكرات بن لادن التدريبية في أفغانستان- الأفضلية في الحرب الأهلية اليمنية. وكنتُ المرأة الغربية الوحيدة تقريباً التي تغطي الأحداث في الجبهة الشمالية للحرب، حيثُ كان الإسلاميون يقودون القتال.
كان من حسن حظي أن ألتقي بجمال، الذي حرص على أن ألتقي بجميع الأطياف الإسلامية، من الجهاديين المتشددين (البعض منهم قَبِل التحدث معي؛ لأنَّ جمال أخبرهم أنَّه لن يتحدث معهم إلا اذا فعلوا ذلك) وحتى الطوائف الصوفية.
لديَّ صورة منذ تلك الأيام التقطها لي جمال بجوار طارق الفضلي، وهو مجاهد يمني حارب مع أسامة بن لادن في أفغانستان قبل أن يصبح قائداً للخطوط الأمامية في اليمن. شجعني جمال على رؤية هذا الرجل المرعب كرجل طموح وقائد محلي بارع يستخدم الوسيلة الوحيدة التي يعرفها من أجل استعادة الأراضي التي حكمتها عائلته من قبل. وكان جمال على حق، فقد ترك الرجل الحركة الجهادية بعد انتهاء الحرب بفترة بسيطة وانضم للحكومة هناك.
وفي أواخر عام 199، حرص جمال على مشاركتي في الوفد اليمني المسافر لمؤتمرٍ ديني في السودان، حيث احتفلنا معاً بعيد ميلادي الثلاثين (تاريخَا ميلادينا يفصلهما يومٌ واحد) في فندق هيلتون الخرطوم. وحاول بشجاعة إقناع بن لادن، الذي كان يعيش هناك حينها، أن يسمح لي بإجراء مقابلةٍ صحافية معه. (امرأة أميركية كافرة؟ حتى جمال وطريقة تعبيره التي لا مثيل لها لم تستطع إقناع بن لادن لتغيير رأيه).
لم أرَ قط أنَّ جمال يتعاطف مع آرائه، وبالتأكيد لم يكن يقبل الإرهاب في أي صورةٍ. لقد كان مراسلاً لديه علاقات جيدة، ويحاول الوصول إلى الحقيقة الكاملة، ويشجع الآخرين أمثالي للسعي وراء الحقائق أيضاً.
ويبدو أنَّه حصل على احترام كل الأطراف، سواءٌ كانوا إسلاميين أو يساريين أو علمانيين.
كانت لدى جمال طبيعة مرحة، ونقطة ضعف تجاه الأجهزة الإلكترونية. كان لديه أصغر مسجل ياباني رأيته في حياتي، في نصف حجم أوراق اللعب، وميكروفون في حجم ثمرة العنب. وكان لديه شغف بألعاب جهاز Nintendo Game Boy. بدا وكأنَّه يمتلك كل إصدار وكل لعبة، وبين نقاشاتنا الطويلة عن الإسلام، كان يتحدث عن ثورة تطور الألعاب. اعتاد ممارسة هذه الألعاب أثناء انتظاره بدء اللقاءات الصحافية، أو أثناء رحلاتنا الطويلة بالسيارة عبر اليمن.
فتاة شقراء أميركية لا تؤمن بدين، وسعودي متدين طويل القامة، لابد أنَّنا كنا مشهداً مميزاً أثناء التجول في اليمن، وزيارة المساجد ومقابلة القادة الإسلاميين من مختلف الطوائف. كان جمال يحميني في المناطق الخطرة، وفي الوقت ذاته يحترم مساحتي الشخصية.
شاركني وقته، وشعوره بأنَّ اليمن تذكره بطفولته في وطنه المحبب لقلبه المملكة العربية السعودية. لم أقابل في حياتي أحداً يحب وطنه بهذا القدر.
كان تمسكه حقيقياً بقيم الإسلام، وكذلك كانت رغبته العميقة في مساعدة الغرباء أمثالي لفهم الأطياف الواسعة للأيديولوجيات الإسلامية. قبل وبعد أحداث 1 سبتمبر/أيلول، كان جمال جسراً هاماً للغاية بين الغرب والإسلام السياسي المستمر في التطور في كل صوره.
كان مستعداً أيضاً لسماع الانتقادات الموجهة للإسلام. ففي إحدى العطلات باليمن، ذهب جمال إلى المسجد، بينما جلستُ أنا مع العشرات من النساء اليمنيات للاستماع إلى الخطبة في الشوارع المتربة بالخارج. كانت الخطبة طويلة، ومع مضي الخطبة ازددتُ غضباً. وصرختُ في جمال لاحقاً: «لما يجب على نصف السكان أن يغطوا أنفسهم ويُجبروا على الجلوس بالخارج؛ لأنَّ النصف الآخر من السكان لا يستطيع أن يتحكم في تصرفاته».
لا أتذكر رده، لكنَّه استمع، وتفهّم إحباطي.
كان رجلاً مخلصاً لعائلته، وتحدث في كثيرٍ من الأحيان عن زوجته المحبوبة وعائلته. قلبي معهم ومع خطيبته التي كان يعتزم الزواج بها بعد الحصول على أوراق طلاقه من القنصلية السعودية في إسطنبول. اختفى جمال بعد دخوله القنصلية يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، واعترفت السعودية الآن بمقتله.
من غير المعقول أنَّ رجلاً ماهراً في التعامل مع المخاطر لعقود عديدة، وشجاعاً في تقاريره، ومتفائلاً بخصوص الإنسانية عامةً، ووطنياً مخلصاً للمملكة السعودية وإمكاناتها، يتم إسكاته فجأة وبهذه القسوة.
أتمنى لو أنَّ المزيد من الأميركيين أُتيحت لهم الفرصة لمعرفة جمال خاشقجي مثلي في ذلك العام.
وبينما أجلس الآن في مطبخي، متمنيةً لو كان بإمكاني منحه بعض القهوة أو فنجاناً من الشاي، أرى بوضوحٍ وألمٍ شديدين أنَّه لم يكن سعودياً عادياً، أو مجرد صحافي شجاع. لقد كان إنساناً طيباً مراعياً، وكان من الممكن أن يكون صديقاً لأي شخص.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع ABC news الأميركي.
The post هذه الصورة التقطها لي جمال خاشقجي منذ 25 عاماً appeared first on عربي بوست — ArabicPost.net.