قالوا لي: إن المرء متى ما انتهى عُمُره انتهى أمره كلياً، وأصبح ذكرى تمضي وربما تعود في بال أحبائه وخلانه أبناء جيله، ويمضي العمر ولا تلبث أن تختفي تلك الوجوه ولا يصبح حتى للذكرى مكان.
أطرقتُ رأسي مسترجعةً صوته الذي يغرّد كالعندليب ووجه الأسمر الذي ما زال يدقّ له قلبي وقلب الكثيرات من جيلي، ونحن في العشرينيات من عمرنا، مع أننا لا نرتدي الفساتين التي كانت ترتديها سعاد حسني، ولا نزيّن شعرنا بالغرة التي تزينت بها شادية، إلا أننا نغدو كمراهقات وشابات يافعات يهتفن لمطربهن المفضل حينما نشاهده أو نسمع أغنياته العذبة.
يربت صوته كالكفّ على كتفي حين تغلبني دموعي عند سماع «جبار في قسوته»، وتعود كفه لتراقصني فرحاً كطلاب المدرسة الطائشين المصدومين بنجاحهم غير المتوقع «والناجح يرفع إيده هيه»، هل تريديني أن أصدق أن لا ذكرى لمن عفا الزمن عن حضورهم، وأنا أشعر بأن حليم حيّ يرزَق؟! هل المحبة التي أراها في عيون أمي حين تشاهد حفلاً له وهو يغني بقلبه ولسانه وعينيه الحزينتين أمر عابر؟! فكيف لم تنسَه أمي بعد أن مضى زمن الطيش؟ وكيف تعلقت به أنا وحين وُلدت كان قد مضى على وفاته أكثر من عقد كامل؟!
أومن بأن الله قد وضع أسراراً لا تتكرر، ونعم تخفف عنا غربة هذه الأرض، وأكاد أجزم أن لصوت عبدالحليم وملامحه التي لا تنسى سراً من أسرار الله في هذه الأرض، إن عشق عبدالحليم متلازمة بحد ذاتها، نتوارثها جيلاً بعد جيل، بلا سبب واضح يذكر، صحيح أننا عرب ونعشق البشرة السمراء، لا سيما إن كنا إناثاً، إلا أن أصحاب البشرة السمراء كثر، وصحيح أن لصوته الشجي عذوبة تسر القلب والخاطر، لكن يا لكثرة الأصوات الجميلة في زمنه وفي زمننا! فبمَ تفسير ذلك؟!
إن لصدق عيونه «أبوعيون جريئة» دوراً في عشق الناس له، فوحده الإنسان الحقيقي من يدخل قلوب الناس بلا عذر أو استئذان، وإن للصدق في إحساسه حين يغني أثراً واضحاً يطبع على قلوبنا قتقشعر له أبداننا في كل مرة يغرد فيها كالعندليب الجريح.
عاش عبدالحليم يتيماً مظلوماً ومريضاً يقضي وقته بين الحفلات والمستشفى، وعاش قصة حب حزينة انتهت بموت عشيقته، قليلاً ما يكون الرجل عاشقاً مخلصاً، لا سيما إن تكاثرت من حوله النساء، لكن حليم كسر تلك القاعدة.
ربما هذا ما يميز حليم ويفسّر حضوره الحي على مر الأجيال، جمع كل الأحاسيس المؤلمة التي قد يتعرض لها الإنسان وجسّدها على شكل أحاسيس في أغنياته، تسمع أغنياته في أذنك وتمضي روحها إلى أجسادنا، تلك الروح التي لا يحكمها زمن أو تطور ولا تموت بموت الإنسان.
إلى روحك الطاهرة المارّة في كل مكان في أوطاننا، إلى حزنك الذي لم ينتهِ بموتك طالما أننا نستشعره في كل مرة نرى فيها عيونك، ربما غنيت «أسمر يا أسمراني، ودندت»وقالت لي أنا من الأول بضحكلك يا أسمراني»؛ لتقصد شخصاً آخر، إلا أننا في كل مرة نسمعها لا نقصد سواه، لروحك السلام يا صبي مصر الأسمر الخالد في قلوبنا.
المقالة متلازمة عبد الحليم حافظ «صبيّ مصر الأسمر» ظهرت أولا في عربي بوست — ArabicPost.net.