طارق يحاصر حقوق الإنسان بين “تأصيل الحرية ومأزق الهوية”
صدر حديثا لحسن طارق، الأكاديمي المغربي المحلل السياسي، كتاب جديد بعنوان "حقوق الإنسان أفقا للتفكير من تأصيل الحرية إلى مأزق الهوية"، عن دار توبقال للنشر.
ويرى محمد سبيلا، المفكر المغربي، في تقديمه للكتاب الجديد، أنه "بحث جينيالوجي حول الجذور الفكرية لحقوق الإنسان في الثقافة العربية والكونية والمغربية، وبحث في المسار والتطور وفي نفس الوقت بحث في شروط التلقي، وتتبع للتوازي بين دينامية الأحداث ودينامية الأفكار، أي في التوازي بين انخراط المغرب في أتون الحداثة عامة، والحداثة الفكرية والسياسية، وسياقاتها الاستعمارية من جهة، وبين آلية الوعي بها كما انعكس ذلك في فكر النخب الثقافية المغربية في وجهيها التقليدي والتحديثي، عند: الحجوي، والسليماني، والقادري في مرحلة أولى، ثم لدى علال الفاسي وبلحسن الوزاني وعبد الله إبراهيم في مرحلة ثانية، ثم لدى الجيل اللاحق للمدرسة الحداثية المغربية الذي من بين أعلامه: الجابري، والعروي، والجيل الذي لحقه…".
ويؤرّخ كتاب حسن طارق، حسب سبيلا، لـ"لتحول معرفي ضمني يتراوح بين التلقائية والوعي بأن العلوم السياسية في المغرب تعيش مخاض التنازع بين النزعة الوضعية الخطية والوصفية من جهة، والنزعة الاشتباكية متعددة الأبعاد للفكر الإشكالي النقدي"، مؤكّدا في هذا السياق أن ذلك "مخاض إيجابي لأنه يعبر عن طموح ثقافي نحو الانتقال أو المزاوجة بين البعد الوصفي والنقد الإشكالي".
سياقات حقوق الإنسان
يذكّر حسن طارق، في مقدّمة كتابه، بأن فكرة حقوق الإنسان قد ارتبطت بالاتجاه الفرداني، الممجد لحرية الفرد وإرادته وعقله، وفكرة العقد الاجتماعي، كأساس ضابط للأصل البشري التعاقدي حول السلطة، وفكرة الحق الطبيعي القائمة على وُجود حقوق طبيعية راسخة وقبلية لدى الإنسان، أهمها "الحرية"، داخل مُناخ تنويري، تميَّز بالنضال ضد النزعة المطلقة في الحكم وضد النزعة التعسفية والاستبدادية.
واستنتج طارق أن مفهوم "حقوق الإنسان" مفهوم حديث، لم يكن من الممكن تاريخياً أن يتبلور خارج السياق الفكري والسياسي للحداثة، وخارج الموقع الذي صار "الإنسان" يحتَلُّه داخل النظرة الجديدة إلى العالم، ثم بيّن أن عُمق الإشكالية يكمنُ في كون حُقوق الإنسان ليست مُجرد لائحة حقوق، بل هي تصوُّرٌ أخلاقي يحمل معه نظرة محددة إلى العالم والإنسان والعلاقات الاجتماعية، ويتطلب مُراجعة صارمة للعديد من المقولات والمفاهيم التي "اعتدنا أن نصف بها أنفسنا ونحاكم بها غيرنا"، وهو ما يتطلب "إعادة قراءة تاريخنا الخاص وتجديد فكرنا الديني".
ويبرز الكاتب المغربي ضرورة إعادة القراءة هاته بإعطاء مثال بحق الحياة الذي يفترض مُراجعة التصورات عن المرتد وحكمه، وبكون استنبات حق الحرية يتطلب إعادة النظر في الموقف من المخالف دينياً، وبكون حق التعبير عن الرأي يتطلب توسيعاً، مقلقاً، لدائرة المسموح بالتفكير فيه.
وخَلُصَ في هذا السياق إلى أن ذلك يجعل حركة "حقوق الإنسان" في بلادنا اختبارا يومياً للحداثة، وامتحانا مستمراً للقدرة الجماعية على الانخراط في المغامرة الإنسانية. وهو ما يجعل من طلائعية المطلب الحقوقي داخل مُجتمع في قلب تحولاته المعقدة نحو الحداثة والديمقراطية والحرية، غير مُغنٍ عن المعركة الثقافية والفكرية الكبرى الجديرة بالأفق التاريخي للدولة والمواطنة؛ لأن حركة "حقوق الإنسان" في المغرب ما تزال في مرحلتها التنويرية، بسبب استمرار عيش المجتمع، ثقافياً، في بعض الأزمنة السابقة على الحداثة والتنوير.
تراكم تأصيلي لحقوق الإنسان
ذكّر حسن طارق بـ"الجُهد الموصول في التشريع منذ بدايات الاستقلال مع ظهائر الحريات العامة ذات النفحة الليبرالية الواضحة، ومسار البناء المؤسساتي المتسارع منذ تسعينيات القرن الماضي، والدرجة المتقدمة من الاعتراف الدستوري ومن الانتباه إلى المرجعية الدولية الكونية".
وعبّر الكاتب عن ضرورة "استحضار جيل تأصيل فكرة الحُرية في التربة المغربية، في أعمال علال الفاسي وبلحسن الوزاني وسعيد حجي وعبد الله إبراهيم… التي شكّلت قاعدة تأسيسية حاسمة في استيعاب الفكر السياسي لجملة من المفاهيم الحديثة وعلى رأسها "الحرية"، وهو الجهد التأًصيليُّ الفكري لحقوق الإنسان والحريات الذي سيتواصل مع إسهامات نوعية لعبد الله العروي، ومحمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري، وعلي أومليل… ثم مع أعمال رموز الجيل الثاني من الفكر المغربي المعاصر، من قبيل محمد سبيلا، وكمال عبد اللطيف، ومحمد المصباحي، وعبد السلام بنعبد العالي…
ويقدّم حسن طارق أمثلة على هذه الجهود الفكرية التي عملت على استيعاب أحد مكتسبات الحداثة السياسية، مثل "توَفُّقِ محمد سبيلا في نحت تعبير بليغ هو «تصادم الحقوق»، في سياق وقوفه على التوتُّر الناشئ عن التقاء الحق في الحميمية مع الحق في الإعلام، وما يطرحه الحق في الاختلاف الذي يضفي مشروعية على الحقوق كُلِّها، ويُلغّمها بإضفائه المشروعية على وجود ثقافة الأقليات وتشكيله في نفس الآن أداة تفتيت وتذويب لا نهائي للهويات التي يقر لها بالمشروعية".
ويورد أيضا "دعوة محمد المصباحي، المفكّر المغربي، إلى «تقييد الحق في الاختلاف» حتى لا يتم إلغاء الشمولية لصالح الخصوصية، والمساواة لصالح اللامساواة، وحتى لا يتم نسيان مُثل الحداثة والتنوير لصالح التقليد والتراث والثقافات الموروثة، مع أخذ مدخرات الثقافات المحلية القابلة للتحديث بعين الاعتبار ضمن حوار شامل في فضاء سياسي حر، مع الرهان على تمكين المواطنة من أن تُصبح أداة لتجاوز الهوية الضيقة ووسيلة لإغنائها في نفس الوقت إذا تجاوزت بُعدَها الواحد، دون أن يؤدّي الحق في الاختلاف إلى القضاء على المواطنة بوصفها انتماء سياسيا للدولة كمجتمع سياسي لا كمجتمع ثقافي"، بتعبير الكاتب.
سياقات لا بد من استحضارها
يحيل كتاب "حقوق الإنسان أفقا للتفكير" على إشكال أعقد من المعادلة الأخلاقية الواضحة لـ"مُواجهة الحق مع الشطط أو التمييز أو العُنف"، لأن الأفضلية الأخلاقية والقيمية لا تبدو سهلة المنال عندما يُواجه حق من حقوق الإنسان حقاً آخر من نفس المنظومة".
هذا التصادم يجعل جدول أعمال المدافعين عن حقوق الإنسان حافلا، لضرورة الوعي الحاد بالتأسيس الثقافي والدعوة الفكرية لهذه الحقوق، ثم المواجهة الميدانية اليومية للخروقات والانتهاكات التي تطالُها، فضلاً عن الترافع من أجل ملاءمة التشريع وتجويده وإصلاح القضاء وأنسنة الأمن وإدماج مقاربة الحقوق في السياسات، والوقوف، في الآن نفسه، على الثغرات والوعي بالحدود والمفارقات وتدبير التصادمات الواردة داخل مرجعية حقوق الإنسان.
هذه التحديات تفرض على أنصار حقوق الإنسان، بحسب الكتاب، "مُواجهة خطابات التشكيك والعدمية المُستندة إلى ثقافات سياسية مُعادية لفكرة حقوق الإنسان استنادا إلى الدين أو الثقافة أو السياسة أو الاجتماع أو الإيديولوجيا، وبذل الجُهد اليومي للدفاع عن هذه الحقوق والتأسيس لها والدعوة إليها والترافع من أجل تكريسها، مع الحاجة الماسة لاستيعاب الإشكاليات والأسئلة المرتبطة بحقوق الإنسان كما تُطرح اليوم، وهو ما تتجلّى صعوبته في طبيعة اللحظة التاريخية التي تعيشها مجتمعاتنا، وتتمثَّلُها نُخبنا، نظرا لطرح أسئلةِ ما بعد الحداثة، مثل: الحقوق الثقافية والحق في الاختلاف، دون استكمال التفاعل مع أسئلة الحداثة السياسية، من قبيل: المواطنة والحقوق المدنية والحريات… وهو نفس الإشكال الذي يتجلّى في الحديث عن الحكامة دون استكمال الديمقراطية في شروطها الدنيا، أو الحديث عن الديمقراطية التشاركية دون تكريسِ الديمقراطية التمثيلية"، يقول حسن طارق.