ربع جنيه
جلست بجواري سيدة وأنا راكبة الميكروباص بينما كنت مشغولة البال بكتاب بين يدي لدرجة منعتني من التواصل بالعين معها عندما ناولتها جنيهاً ونصف الجنيه للأجرة لتتولى هي مسؤولية إيصالها للسائق، فإذا بها تقول لي: «إذاً لكِ ربع جنيه». كنت نصف واعية لما يجري حولي وما كان ينبهني هو صوت بعض الركاب عندما علت أصواتهم بعض الشيء وهم يطالبون بباقي الأجرة من النقود وقد انضمت لهم جارتي في الركوب مطالبة بـ«ربع جنيه لنا هنا»، على حد قولها، فانتبهت أكثر وأنا أتأمل ما يحدث، فإذا بها تقول لي:
«لا تشغلي بالك وخليكِ في القراية وأنا عليَّ أجيب ربع الجنيه». رفعت عيني عن الكتاب ونظرت إليها وابتسمت لها ابتسامة عريضة تسللت إلى كل خلايا جسمي، فردت عليَّ بالابتسامة ذاتها ثم قالت لي: «أنتِ مستغربة؟ لا تستغربي؛ إذا كان ربع الجنيه لا يمثل شيئاً يُذكر لكِ فالعكس تماماً بالنسبة لي».
كنت لا أزال مبتسمة ولم أنبس ببنت شفة وهي تعيد على السائق: «فيه ربع جنيه هنا لنا يا أسطى». أوشك السائق أن يلتفت إليها ليقول لها: «وما لكِ أنتِ؟»، طبقاً لفكر «الأنامالية» وعبارته الدارجة «وأنا مالي» السائدة في أغلب الأحيان، لكنه لم يفعل. فَلَو فعل، كنت على استعداد للرد عليه إذا وجّه لها أي لوم بأن أخبره بأنني وكلتها. فقد كنت أقول في نفسي إنني لا بد وأن أنصر قضيتها التي كانت تُختصر في الإتيان بربع الجنيه في ذلك الموقف.
وقد حدث بالفعل أن انتصرت قضيتها وسلمتني ربع الجنيه، وتبادلنا الابتسامات العريضة، التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، من دون كلام وكأنه انتصار فعلي في معركة. هدأت نفسها واشتعلت نفسي من جراء اجترار مواقف شتى شاهدتها في الميكروباصات تلك المواقف التي تذكرني بقلة حيلتي لافتقاري إلى القوة الخشنة. أذكر من بين هذه المواقف:
عندما نادى سائق الميكروباص، مرات، أن الأجرة جنيه ونصف بدلاً من جنيه وربع بحجة ارتفاع سعر البنزين، مع العلم أنها كانت جنيهاً واحداً قبل ظهور أزمة البنزين (أي زادت بمقدار 50٪)؛ عارضه اثنان من الركاب تبدو عليهما رقة الحال أو لنقل بؤس العيش في صوت خفيض بقولهما: «كيف هذا.. إن الأجرة جنيه وربع؟!»، فرد عليهما بكل صلف: «اللي مش عاجبوا ينزل».
فأود مساندتهما وتقديم أي دعم لإيقاف هذا الجشع لكني أفشل بسكوتي وكتم غيظي من استهانة أغلب الركاب بقيمة ربع الجنيه، الأمر الذي يعزز من موقف السائق ومن ثم يصر على موقفه بعجرفة شديدة فيخضع الراكب الفقير لما أقرّه السائق ووافق عليه أغلب الركاب الذين قدموا لي جرعة لا بأس بها من الخزي فأتشربها على مضض واستكراه حتى أحتمل شتى المواقف المشابهة في الميكروباصات. وفي نفس الوقت أشعر بضعفي وقلة حيلتي لافتقاري للقوة الخشنة اللازمة لمواجهة جشع سائقيها.
أذكر أيضاً مرات يفرض فيها السائق أعلى قيمة للأجرة من تلقاء نفسه فيتبعه غيره من السائقين في نهم طلب المال. وأعني بأعلى قيمة للأجرة أنه من المتعارف عليه في عُرف الميكروباصات أن الأجرة مصنفة حسب المسافة.
لكن إذا هوى أحد السائقين جمع المزيد من المال ذات صباح أو مساء، فرض أجرة موحدة وهي تلك المُستحقة لأكبر مسافة. فرض السائق ولم يعترض أحد من أصحاب القوة الخشنة الذين ما عليهم إلا الاستهانة بقيمة ربع الجنيه وأحياناً يستهجنون اعتراض الفقراء على هذا الأمر. فرض السائق وما على الفقير إلا الرضوخ والاستسلام لرأي الأغلبية التي لا تضعه في الحسبان، وإن لم يرضخ صار منبوذاً!
والجدير بالذكر أنه عندما ارتفع سعر لتر البنزين زادت الأجرة بمقدار نسبة ارتفاع ثمن اللتر وكأن على كل راكب تحمّل هذه الزيادة بمفرده على الرغم من أنه لا يستقل الميكروباص بمفرده! هل تُعقل هذه الحِسبة؟ أي منطق صاغها؟ إنه منطق جشع سائقي الميكروباصات الذي يحكم ولا يتصدى له إلا الفقراء وهم لا يستطيعون وحدهم.
وبذلك أدعو أصحاب القوة الخشنة أن يساندوا الفقير إن شاءوا ولو بالدفاع عن حقه في ربع جنيه، أو يتصدوا لجشع سائقي الميكروباصات إن أرادوا.
المقالة ربع جنيه ظهرت أولا في عربي بوست — ArabicPost.net.