تسمُّم غذائي بعد وجبة كسكسي وتيفود وكوليرا.. لماذا تنتشر أمراض القرون الوسطى في الجزائر هذه الأيام؟

0

قمت بنزهة قصيرة أواخر الشهر الماضي بأحد الشوارع المعروفة وسط الجزائر العاصمة. وهي عاصمة الجزائر وإحدى أكبر المدن في شمال إفريقيا، يتراوح عدد قاطنيها بين مليونين إلى خمسة ملايين نسمة ولا توجد أرقام حديثة للتعداد السكاني.

أبقيت إحدى عيني معلقةً بالشرفات فوقي للتأكد من عدم سقوط إحداها فوق رأسي نظراً لسوء حالة الأحجار القديمة والمتهالكة بفعل التسريبات في مواسير المياه، فيما ظلت عيني الأخرى تراقب موضع قدمي.

تُعاِود الأرصفة المتصدعة غير المتساوية الظهور بشكل متكرر ومع تجاهل تام لمعايير البناء (تمنح البلدية عقود الأشغال العامة المُربِحة)؛ محفوفة ببرك الماء المثيرة للغثيان وأكياس القمامة التي تلتهمها القطط الضالة وأكوام ركام تتجاهلها الأشغال العامة.

وفقاً لهذه التغريدة؛ مضى قرابة أسبوع على آخر حملة نظافة لهذا الشارع الموجود في قلب العاصمة والذي يبعد عن أودين مسافة 10 أمتار.

رفع البصمات

هل لهذه الظروف المتدنية أي ارتباط بتفشي الكوليرا الذي أصاب المقاطعات وسط الجزائر؟ بدون شك. ولكن ليس بالطريقة التي يقدم بها البعض اقتراحات سخيفة كما فعل أحد المسئولين (مسئول رفيع المستوى) عام 2003 عند الإعلان عن حالات الطاعون في ضواحي وهران: «كان مُقدراً حدوث ذلك؛ فالجزائريون قذرون!».

أعيد فحوى تصريحه على ألسنة العامة القلقين والمنزعجين تجاه عودة ظهور أمراض القرون الوسطى (تنتشر حمى التيفود باستمرار خلال فصل الصيف) ناهيك عن خطر التعرض للموت عقب تناول الكسكسي بإحدى حفلات الزفاف، وأبلغ عن عدد غير مسبوق من حالات التسمم الغذائي في هذا الموسم من الاحتفالات العائلية.

انتُقد رد الفعل الحكومي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وجاءت الانتقادات مدعومةً بصور الشوارع المليئة بالنفايات. علاوة على ذلك، يُقاضي الجزائريون بعضهم البعض بسبب النفايات المُلقاة من نوافذ المنازل يمنة ويسرة، وجلود الغنم المتروكة في الشمس حتى تتعفن بعد ذبيحة عيد الأضحى، وجداول تجميع النفايات التي لا تُحتَرَم، والقمامة الملقاة على الشواطئ وفي الغابات صيفاً وشتاءً.

مثل هذه الشكاوى صالحة ويسهل إثباتها، ومع ذلك فإن هذه الادعاءات مضللة، ونادراً ما تستهدف القوى المسؤولة عن مدننا المتخلفة والتي تزداد تخلفاً.

الساحة العامة

يُلامُ سلوك عددٍ كبيرٍ من الجزائريين. فقد حولت فوضويتُنا الحضرية المتأصلة مُدننا إلى قرى بدائية، وحولت قُرانا إلى مدنٍ قبيحة مغطاة بالأسمنت. وقد قال صحفي أجنبي في إحدى المرات «المنازل العربية نظيفة في الداخل، لكن الشوارع التي يعيشون فيها قذرة. هذا لأنهم يشعرون بالأُلفة في منازلهم، ولكنهم يشعرون بالغُربة في بلادهم».

تذكرني هذه الكلمات بكل شباب وفتيات الجزائر الذين يحملون على عاتقهم تنظيم حملات تنظيف الأحياء والشواطئ والغابات. عندما تنتهي الحملة وتوضع المجارف والمكانس بعيداً، عادةً ما تبدأ المشاكل من جديد. لماذا؛ لا يسع المرء إلا أن يتساءل. هل الجزائريون ببساطة وسِخون وأفظاظ؟ إذا سألتني، فسأجيب بالنفي. يقع اللوم في واقع الأمر على عاتق السلطات العامة غير القادرة على دعم أو إدامة مثل هذه المبادرات المفيدة.

السلطات العامة الجزائرية تكاد تكون غير موجودة أصلاً، بالإضافة إلى افتقارها للكفاءة والشرعية والمصداقية اللازمة للاستجابة إلى الوضع بسبب ممارسات الابتزاز والفساد المنتشرة على نطاق واسع. ولذا يؤدي هذا التجريد من الآفاق العامة والمادية والسياسية حتماً إلى انعدام عام للثقة في السلطات الاتحادية والمحلية، وإلى تمرير المسؤولية على نحو منهجي أيضاً. (وهي سياسة بديلة لتحقيق حالة من التوازن تلجأ إليها الدول التي تعاني من اختلال في ميزان القوى، أو الدول المهددة بحدوث هذا الاختلال).

يتساءل أحد الجيران قائلاً «لماذا ينبغي علي أن أساعد في جمع الأموال من أجل إعادة رصف الشوارع المليئة بالحفر في حيّنا، بينما تذهب ميزانيات الولاية -المحافظة- مباشرةً إلى جيوب «الأصدقاء» ورجال الأعمال الذين لا يعرفون شيئاً عن بناء الرصيف بشكل صحيح؟».

يُمكن أيضاً طرح السؤال بهذه الطريقة: لماذا ينبغي علي أن أهتم بالأماكن العامة والصالح العام، بينما أنا مُستبعد منه، وبينما لا يُحترم صوتي الانتخابي، ولا مشاركتي، ولا حقوقي كمواطن في هذا البلد؟

وحتى لو حاول بعض رؤساء البلديات تفادي الوقوع في الفوضى المعممة على المستوى المحلي، فإنهم لا يتمتعون إلا بقدر ضئيل جداً من الحرية. إذ يتمتع المسؤولون المنتخبون في المدينة بامتيازات أقل من أولئك المعينين من قبل الدولة من المسؤولين والولاة (المحافظين) ونواب المحافظين والمسؤولين عن الإدارات الإقليمية، أو الدوائر والبلديات في الجزائر.

إدارة كارثية

لا يُمكن الوثوق بالتصويت الشعبي في ظل أنظمة الحكم الاستبدادية، نظراً لأنها تؤمن بمبدأ «إن الناس لا يعرفون كيفية التصويت، ولذا فإن هذا الأمر متروك لنا -نحنُ السلطة التي قُدِّر لها أن تكون- لنقول لهم ما يجب عليهم فعله وكيف يفعلون ذلك، وهي عقيدة يؤيدها بعض معارضي النظام كذلك، على الرغم من أنهم ينكرون ذلك بطبيعة الحال.

ليكن الأمر كذلك. ولكن بعد مرور 60 عاماً من إهدار الموارد البشرية، ومع وصول عدم الكفاءة والفساد إلى آفاق جديدة، فلا يحق للسلطات بعدها أن تخبر أحداً «ماذا يجب أن يفعل وكيف يفعل ذلك».

يبين انتشار المشاكل الاجتماعية والعنف في المناطق الحضرية، من مقتل أب من قبل عامل في موقف غير قانوني للسيارات، إلى الاشتباكات الداخلية في الأحياء على أماكن وقوف السيارات، يبين إدارة الحكومة الكارثية للأماكن العامة.

تكتفي النخبة الحاكمة باحتقار الناس، تاركة إياهم تحت رحمة القوى الرجعية المتخلفة، في الوقت الذي ينصب فيه غضبهم على أهداف عملية أكثر: مثل النساء اللواتي يعشن بمفردهن أو الكُتاب الذين ينتقدون التعصب.

مسألة احترام

يقول مهندس معماري جزائري «يبذل الجزائريون ما بوسعهم في ظل عدم وجود حكومة يحترمها الشعب، وفي غياب نخبة سياسية التي تحترم نفسها».

تقول سيدة أعمال شابة تدعى دلال «أراد أحد رجال الشرطة تحرير مخالفة ضدي في أحد الأيام، ورفضت الإصغاء إليه لأنه لم يكن يرتدي الزي الرسمي بشكل صحيح».

لذلك نعم، يُمكن «للشعب» أن يتحمل المسؤولية بدرجة معينة، ولكن تجاهل تعقيدات نظام الإدارة العامة والسلطات التنظيمية التي تفتقر إلى أي شرعية سياسية حقيقية هو بمثابة إغلاق أعيننا عن الواقع. ينبغي علينا أن نبدأ بتغيير أنفسنا أولاً.

– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.

The post تسمُّم غذائي بعد وجبة كسكسي وتيفود وكوليرا.. لماذا تنتشر أمراض القرون الوسطى في الجزائر هذه الأيام؟ appeared first on عربي بوست — ArabicPost.net.

قد يعجبك ايضا

اترك رد