اليوم الثالث من مارس ليس كالأيام…
مابريس
اليوم الثالث من مارس، أصبح يوما عاديا جدا، بعد أن كان يوما يتوقف فيه نبض قلوب المقدمين والشيوخ، الجدارمية والقياد، المخازنية وكل رجال السلطة بالمغرب. في مثل هذا اليوم، جلس الحسن الثاني على العرش، مات الحسن الثاني ودفن رحمة الله عليه، ودفن معه الثالث من مارس. صار يوما باهثا، لا يبالي به أحد. الأيام مثلها مثل البشر، يمكن أن تصير ذليلة بعد أن كانت ذات عزة وفخامة.
الفيلاج غارق في الكآبة، كان في مثل هذا اليوم قبل سنوات، مزين كعروس ستزف لأمير. كل شبر فيه، وكل قطعة منه تلبس الزينة. الرايات في كل مكان، والأضواء الملونة الصغيرة كانت تتلألأ، معلقة لخيط طويل ومربوط لعمودين، أعلاهما كانت الريات تتلاعب بها الرياح. الخيط كان يمر فوق الطريق، لم يكن طريقا سريع، كان طريق عادي مليئ بالحفر. كنا ننتظر عيد العرش كي يسدوا الحفر، ويدهنوا جنبات المدارة الطرقية بالدهان الأحمر والأخضر. حتى النخلة التي كانت وسط المدارة زينوها، صارت مغرية أن يلتقط الغرباء بجانبها الصور. الغرباء، أما من يسكن الفيلاج فقد مل المدارة، والنخلة والطريق المحفرة.
في مدخل الفيلاج، ولم أدري لحظتها كيف فعلوا ذلك، علقوا صورة الحسن الثاني في مكان عال، بطربوشه الأحمر المخزني وجلبابه الأبيض، وهو يقتعد كرسيا. كنت أظن، وقتها، أن ذاك الكرسي هو كرسي العرش. كنت لا أزال صبيا، وفيما بعد فهمت أن عرشه أكبر من ذاك الكرسي، أفسح منه… إنه جالس على الوطن.
مساء الثالث من مارس بالفيلاج، كان أشبه بكرنفال يقام في إحدى مدن البرازيل. يعج الفيلاج بالناس، بالرعاع، يفدون له من كل النواحي ويأتون متأنقين والنساء يلكن السواك، والمرهقات يعصرن نهودهن الصغيرة في فساتين ضيقة. والشابات يفردن شعرهن الذي سرحهن جيدا ويضعن قليلا من أحمر الشفاه. كنت ترى الطرق المؤدية بالفيلاج مليئة بأفواج البشر، يسرن في جماعات، كل جماعة لا تبعد عن الأخرى سوى ببضع أمتار. إنهم ذاهبون ليحضروا للحفلات التي ستقام. الشيخات وهن يهززن أردافهن على خشبة منصة، عروض “تبوريدة”، وحركات كراطي يقوم بها متدربون بنوادي في المنطقة. رقصات من تراث المنطقة، حكواتيون و”المسيح ” الذي يضحك بحذائه الكبير.
كان كل هذا يقام في ساحة كبيرة، هي في الأصل كانت ملعبا لكرة القدم. الباعة يعرضون سلعهم. رائحة الأبخرة وعطور رخيصة تفوح في الجو. اللصوص أيضا كانوا يأتون، ليس للإحتفال، لكن لتحسس الجيوب في الزحام. لا يمكن أن يمر ذلك اليوم دون أن تسمع عويل إمرأة “سرقو ليا ولاد الحرام البزطام”. إنها لا تفطن للأمر سوى حين تريد دفع ثمن شيئ إشترته، في تلك اللحظة، تلمح البقية المتحلقة حولها تحسس جيوبها، وحافظات نقودها.
الشبان أيضا يتأنقون، ويرتدون سراويل جينز غير متآكلة المؤخرة، وينتعلون أحذية ويضعون عطر أمهاتهم. كنا لا نفرق بين عطور الرجال وعطور النساء، كان كل ما يرش، صالح للجميع. يذوبون وسط الزحام، وكلما شاهدوا لمة جمع أمام عرض ما، يقفون خلف جسد مراهقة مثيرة، يلتصقون بها ويحتكون، ويتحسسون مؤخرتها. وحين تفطن للأمر لا تصرخ، بل تجر صويحباتها ويغادرن. إنها إستحلت إحتكاكه بها، لكنها خافت أن يطمع المحتك بها في شيئ أكثر.
هكذا كان الفيلاج يوم الثالث من مارس. تذكرته حين لمحة ” بوجعران” المجنون. في مثل هذا اليوم كانوا يلمونه هو والمتشردون أمثاله، كانوا يخفونهم في مكان ما. لا أعلم أين؟ المهم أنه كان لا يظهر له أثر إلا بعد مرور يومين. اليوم طلب مني سيجارة ومضى… ربما فطن هو أيضا أن اليوم هو الثالث من مارس، لذلك أشعل السيجارة وفي مكان تحت سواري.. تقرفص وجلس.. وظل صامتا.
بقلم عبد الحكيم شكير