الفنان المغربي أنور الجندي يتذكر لبنان

0

لك الله يا لبنان، لك الحافظ الحفيظ يا أرض شجر الأرز، لك الستار بستر جلاله يا سويسرا العرب يا ربوع الحرية ويا ملهمة الفنانين والمفكرين وكافة المبدعين …

اسمحي لي سيدتي القارئة سيدي القارئ بعد تقديم واجبات العزاء بأدق وأرق مفردات المواساة للشعب اللبناني الحبيب الشقيق، إثر هذا الانفجار الذي فجّر الأحزان والأتراح في دواخلنا، وروّع بهجتنا بعيد الأضحى المبارك، اسمحوا لي أن أنبش قليلا في ذاكرتي ومذكراتي من خلال بعض الأحداث التي عشتها منذ نهاية الستينات إلى الآن، والتي أتمنى عبر موقع جريدة هسبريس الموقرة تصويرها في حلقات مقتضبة في قابل الأيام إذا أطال الله العمر …

بعد هذه المقدمة، وفي عملية استرجاع شريط حياتي الفنية (FLASH BACK) وبالضبط في سنة 1975، انتهى المرحوم العبقري “مصطفى العقاد” -الذي فقدناه أيضا جراء انفجار آثم في عمان- وبعد تعب سنين طويلة في جمع المال الكافي لإنتاج وإخراج فيلمه الثالث الضخم “صلاح الدين الأيوبي”، بعد “الرسالة” و”عمر المختار” وشريطه الثالث الذي كان من بطولة أحد عمالقة السينما وأطوادها المتبقين “شين كونيري” (SEAN CONNERY) أول جيمس…

قلت في تلك السنة، وبعد انتهاء تصوير فيلم الرسالة التحفة، استطاع كل من الفنان اللبناني الكبير “ريمون جبارة” والنجم الفلسطيني محمود سعيد، وكلاهما كانا صديقين لوالدي الحاج “محمد حسن الجندي” أسكنهم الغفار الفردوس الأعلى … فاستطاعا إقناع “الممثل والمؤلف الجندي” بأن يرافقهما ويلقي بعصا ترحاله ببيروت، حيث بداية الزخم الكبير من المسلسلات الناطقة باللغة العربية الفصحى الجميلة: “عازف الليل-محاكمات أدبية-غريب-غروب-النهر… إلخ” بمعية النجوم: “عبد المجيد مجذوب-هند أبي اللمع-إلسي فرنيني-ليلى كرم -إحسان صادق-سميرة البارودي-مارسيل مارينا-عماد فريد-ميشال ثابت-رشيد علامة-محمود سعيد، وطبعا الممثل والمخرج ريمون جبارة…”.

فما كان على المرحوم إلا أن اتفق مع مستشارته وزوجته وزميلته وأم أبنائه {عبد المنعم رحمه الله تعالى وأنور والابن الأصغر حسن} وطلب منها أي الحاجة فاطمة بنمزيان، وهي المعروفة بحكمتها رغم صغر سنها آنذاك، أن تنوّر كدأبها قراراته وأن تحسم معه في هذه الخطوة الانتقالية التاريخية، كأي زوجة تريد لأب أبنائها التفوق والتألق، فما كان منها إلا أن تخرج “للسوق التحتي” حيث دكاكين بيع وشراء الذهب، لتبيع كل ما اقتنته وادخرته من حلي ذهبية “لدواير الزمان”، من “حزام ذهبي ودماليج وفردة دعصير الصابون والدبلون”، ولم تحتفظ لنفسها إلا ببعض السلاسل والخواتيم البسيطة، وكانت الوالدة قد اشترت هذه الحلي من تعويضاتها من “شركة فيلمكو” المنتجة لشريط الرسالة، حيث شاركت أيضا فيه ضمن الجموع “الستوك كومباني” (STOCK COMPANY)، فأضافت على ما وفّر الوالد من مال فيلم “الرسالة” ما باعته للصائغ …

وهكذا جمعت أمي المرحومة فاطمة في حقيبة زوجها ما خف حمله من ملبوس، أما ما غلا ثمنه الذي سيحتاجه في سفريته لبيروت، فكان صوته وملامحه وقامته ونظراته وكفاءته التمثيلية، وقدرته على إتقان فن الإلقاء والتشخيص والتجسيد لمختلف الأدوار التاريخية والأعمال الدرامية الاجتماعية…

وهكذا وفي أجواء حزينة للفراق الثاني للوالد، الذي أحيا في الزوجة والأبناء لوعة هجرته كرب الأسرة آنفا إلى باريس وإلى الجزائر لمدة سنة تقريبا بمعية الفنان الكبير الحاج عبد الهادي بلخياط والمرحوم عزيز الفلالي، وفي المدة نفسها مع الموسيقار عبد الوهاب الدكالي-سنعود لاحقا لهذا الموضوع مصوراً-حيث ذكّرتنا هذه الرحلة أو هذه الهجرة الجديدة بأخيّاتها، ولعل تسمية أختي: آخر العنقود هاجر، أتت من كثرة هجرة المرحوم الجندي، فكان اسمها “هاجر الجندي، بمعنى هَاجر الجندي”، ولعلها أي “هاجر” أكثر أبناء محمد حسن الجندي وفاطمة بنمزيان حرمانا من دفء الأب، لذا في 1979 وفي الفيلم الضخم “القادسية” بالعراق الحبيب، لمخرج الواقعية المرحوم صلاح أبو سيف، قلت في هذا الفيلم أصر الوالد على الوالدة وألح عليها باستقدام أختي هاجر لتقطن معهما لشهور ببغداد وبالضبط بـ”منتجع الحبانية” البديع والرائع…

 

وبالعودة إلى موضوع لبنان الغالي، فقد وصله الوالد وتحديدا بيروت، واستُقبل أحر استقبال من لدن حبيبيه “ريمون جبارة”، و”محمود سعيد”، وبدأت الاتصالات وأُخبرت أمهات الشركات اللبنانية بوجود أحد نجوم فيلم الرسالة بلبنان، فبدأت تنهال على النجم المغربي {محمد حسن الجندي} سيناريوهات المسلسلات والسلسلات، فقبل البعض ورفض احتراما لنفسه وفنه البعض الآخر، فكان أول باكورة هذه الأعمال مسلسل “ربيع”!!!.

 

إنما وكما يحلو للكاتب اللبناني الشهير “وفيق العلايلي” ووفق تعبيره، فإن “سخرية الأقدار” تأبى أن تستقر عائلة الجندي بلبنان، رغم أن الوالد اكترى منزلا ببيروت واتصل بالوالدة كي تحرز على وثائق الانتقال الدراسي للأبناء، حيث سنتمم هناك دراستنا الثانوية والجامعية لاحقا… وأخبرتنا الوالدة بقرار أبينا وشرعنا نهيئ أنفسنا نفسيا لحياة جديدة في دولة لا نعرف خباياها وخفاياها إلا عبر المطالعة والمشاهدة التلفزية والسينمائية …

 

وبدأت صور الوالد تصلنا من صخرة الروشة ومن بعض الشوارع الراقية كشارع الحمراء الأشهر، ومع بعض نجوم الغناء والتمثيل، وعناوين المسلسلات التي اقُترحت عليه، وكان قصده رحمه الله تعالى تمهيد زوجته وأبنائه الثلاث-ولم تكن هاجر ولدت بعد، إذ لم تر النور إلا في 1976-قلت كان المرحوم يسعى لجعلنا نتأقلم مع حياتنا المقبلة بلبنان عن بُعد وقبل وصلنا …

لكن … أجل لكن، حكمة المولى الحكيم الرحيم عز وجلّ أبت إلا أن تصوغ سيناريو آخر، وحبكةَ أحداث مغايرة لحياة هذه الأسرة وتسطير ورسم مسار مخالف لها، عكس ما خطط له الوالد والوالدة…

ذلكم أيها القراء الأفاضل أن الوالد كان جالسا مع بعض الأصدقاء الفنانين في إحدى المقاهي، وكان في المطعم أشخاص ينتمون لجهات وفصائل حزبية معينة، فدخل مسلحون من فصيل آخر وأردوهم قتلى وتركوهم مضرجين في دمائهم، أمام ذهول ودهشة بل وصدمة المرحوم الوالد، الذي لم يتعوّد رؤية مثل هذه المناظر إلا في أفلام الكوبوي وشيكاغو وسينما المافيا الإيطالية !!!

والغريب، يروي الوالد أن هذا الحدث بالنسبة لزملائه عادي ومتوقع لديهم، وحاولوا تهوين هول صدمته وتصغير هذا الحدث في عينيه…

فما كان منه أدبا إلا أن يجاريهم ويكظم قراره، وبيّت فكرته المتمثلة في المثل المغربي: {يبات ما يصبح}، وهكذا ترك الجمل بما حمل، وقصد بعد مدة قصيرة مطار بيروت الدولي متوجها مباشرة إلى مطار النواصر الدولي… ومنذ هذا التاريخ اشتعل أوار نيران التفجيرات المؤسفة والمؤلمة… وعلمت شخصيا فيما بعد وأخبرت بذلك الوالد أن الفنان والممثل النجم “جهاد الأطرش” هو الذي قام بأداء دور البطولة لمسلسل “ربيع”.

 

ومن تلك الفترة تأجج الاقتتال في هذا البلد المنير المضيء بنبوغ وعبقرية أناسه، وبهاء وبريق شوارعه، وأمجاد عمالقة فنانيه ومبدعيه وأدبائه، وبالمحصلة تاريخه الأغر الساطعة أنواره في أرجاء العالم …

وشخصيا حزنت كثيرا لإلغاء هذه الرحلة، وأنا المراهق ذو 14 سنة من العمر؛ إذ كنت أُمنّي النفس والعين برؤية جميلات الدراما اللبنانية المحترمات: هند أبي اللمع وإلسي فرنيني ونهى الخطيب!!!، وشرير الدراما اللبنانية عبقري التمثيل ميشال ثابت، ونجم عازف الليل عبد المجيد مجدوب، رحم الله من التحق بالرفيق الأعلى وأطال الله عمر الباقين… كما كنت أتوق لزيارة الأرض التي أنجبت كبار لبنان من أمثال إليا أبو ماضي-ميخائيل نعيمة-جرجي زيدان-جبران خليل جبران-وفيق العلايلي وغيرهم…

فاللهم يا منجّي نجّ لبناننا وجنّبه الفتن والمحن، وقهِ شر سفك الدماء والحَزن…

كما أرجو من سعادة سفير صاحب الجلالة بلبنان، صديقنا المثقف الخلوق والدبلوماسي المحنك الدكتور امحمد اكرين الفاضل، أن يتفضل بأن ينوب عن عائلة الجندي وفاطمة بنمزيان، بل ومجموعة من الفنانين المغاربة، في إيصال أسمى عبارات العزاء والسلوان لأشقائنا، وكلنا تعاطف مع أهلنا في لبنان: قمة وقاعدة، وأكفنا مرفوعة ومتضرعة للحنّان المنان الرحمان بأن يصون ويلطف بألطافه النورانية لبنان.

 

اترك رد