الشاعر المغربي عبد الغنيّ أبوالعزم يكتب قصيدة تحكي مستقبل بيروت
بعد حصار بيروت في سنة 1982، كتب الشاعر المغربي عبد الغنيّ أبوالعزم قصيدة، نثر فيها حديث بيروت إليه عن بيروت: تاريخها، وضحكها، وبكاؤها.
ولو اختلفت السياقات، يظلّ الألم واحدا، وتطفو معاني هذه الأبيات التي ضمّنها الشّاعر سيرته الذّاتيّة الشّعريّة “هكذا حدَّثَني المنفى”، على سطح فجيعتنا في هذه العاصمةِ التاريخِ، الغصَّةِ، القصيدة.
ويتساءل أبوالعزم عن بيروت؛ هذا الاسم الآتي من أروقة التاريخ، “كيف غاب ضحك أرزه؟”. وبين أمسٍ كان فيه المغتصِبُ الاحتلالَ الصّهيونيّ، وحاضرٍ… يبقى اغتصاب آلاف السّنين قائما، لم يسلم منه تاريخُ أرضٍ، وأرضُ تاريخٍ، ولو ارتفع صوت لبنان مستغيثا في الجبَل، يكتوي حُزنا في البقاع، وينتشر في الجنوب الأعزل، الذي لم يعد أعزلَ، بتعبير الشّاعر.
وبين أمس ويوم، ظلّ السّلاح حاضرا: فالمساءُ مساء السلاح، يتسرّب إلى النوافذ المغلقَة والأبوابِ المقفَرة، والصباح صباح السّلاح، يبصق دما، ويحمل الأثقال في مستنقَعٍ، على الجَمر والنّيران الملتهِبة، وبيروت لم تعد تعرف لا العويل ولا الأنين بل “هي العويلُ والأنينُ … وانفجار بركان”، ينام في عيونها الليل والنهار، و”على ضفاف البيوت والخراب، والعالَم سكوت… والخراب لا يسجُد في قُنوت… ولن يُسَبِّحَ في خشوع الهلع والقنوط”.
ويتوجّه الشاعر الذي تُحدِّثُه بيروت إلى زمان القهر سائلا إيّاه: “يا زمانَ القهر، أين غابَت زهرةُ بيروت؟ أين اختفَت طيور المساء؟”، ويزيد ناعيا قدر المدينة: “انتشرَت الحفّارات، تخنُق أصوات المآذن … تُكَسِّرُ رنين الأجراس… غاب التّتار، وجاء التّتار…. ينشرون الرُّعب والدّمارَ والثّبورَ، وفي كلّ بيتٍ خندق ومتراس … يريدون محو تاريخِ الأرض … هي سماء بيروت تقطرُ دما أرضا”، ثم يضيف: “هكذا حدَّثَتني بيروت، يا سماء”.
بيروتُ، هذهِ التي تريد أن تكون وطنا لكلّ الغرباء، وهم ليسوا غرباء، ويدها ممدودة من الماء إلى الماء، يخاطِبها وفيروزًا الشَّاعِرُ: “منذُ كنتِ يا بيروت، كانت بيروتُ ضوءا في العتمة، وضوءا في الظُّلمَة، وفيروز غير نائمة … في قمّة الجبلِ، تُرَتِّلُ لحنا بعلبَكيّا، تنادي بين الأعمدة … يا أحبّائي أنا ها هنا، حيث! أنادي الأرزة والبندقيّة والكوفيّة، والهندام الأنيق”، إلى أن جاءت… “فأحرقتِ الأرزة الجميلة”، و”شوّهت الهندام الأنيق”.
وتختلف المسبّبات والحزن واحد على بيروت التي رآها الشاعر، ورأى “… دمعها على خدِّها”، ورأى “في بيروت بين جنبات الأرصِفَة والحُفَرِ وآلاتِ الهدمِ والدّمارِ، والحفّارات… ترمي الموتى في ظلّ الشّمس وشمس الظّلال”.
ويقول أبوالعزم شعرا: “العسفُ ينتزِعني من مخدَعي، تأخُذني شهوة الرّياح الأربعة من الخليج إلى المحيط، تقذِفُني إليك يا بيروت، ترميني فأعبُر الأشواق … أرتطم بالأحزان، ويكبو فرَسي على فرَسي … قلتُ، وقالَت بيروت: فضائي لم يعد فضاء… كلّ ما لا أعرفُه أعرِفُه الآن، وكلّ ما كنتُ أشتهيه يودّون أن أتقيَّأه …وكلّ ما أحِبُّه يرغبون أن أكرهَه، هو الرُّعب المبهَم، يشُدُّ مفاصِلي، يغرِزُ في بؤبؤ العين إبرَ الحِقد الأصفر… ويزرع في الحقول حناظلَ”…
يتشرّبُ القارئ المعاني، فتوقِظ ألمه، وأحاسيسَ فجيعته، وضعف حيلته.
لكنّ بيروت، بيروت التاريخ والثّقافة والشّجن، بيروتنا، “لن تسقط”. بحزم يجزم الشّاعر، ونؤمِّن على جزمه: “بيروت لن تركع لخراب الأرض … لن توَدِّع الرّبيع في ليالي الصّيف … لا في بداية الخريف، ولا في نهاية الشّتاء”، فبيروت عنوانٌ “مكتوب بحروفٍ فينيقيّة عربيّة … من آل المسيح وآل محمّد … وسعاةُ البريد لن يُضَيِّعوا عنوان بيروت”.
“بيروت باقية وغير باكية”.
هكذا حَدَّثَتْني بيروت*
إلـى فيروز الإنسان والصوت
إلى سلوى، سلوتي الحرة حضوراً وغياباً، إلى التي أحبت فيروز وبيروت كما أحببتهما، حيث ترسخت بذلك استمرارية الحب المشترك.
*****
هكذا حَدَّثَتْني بيروت عن بَيْروت
اسْمٌ آتٍ من أرْوقَةِ التّاريخ،
اسْمٌ يَغيبُ في تَضاريسِ الوَجْد
يَطْفو على شِفاه المَوْج، يُلامس ما لا يُلْمَسُ،
يعْلو، يَرتَطِمُ، يَتَدَفَّقُ،
يَسْألني، أتَعْرِفُ ضَحْكَة الشَّرق
وبُكاء الشَّرق ؟
هُوَ الضَّحِك والبُكاءُ يتَمَرَّغان في الكَلام،
يَسيلانِ مِنَ الأرْزَة العذْراءِ في كُهوف الأحْرُفِ
*****
يا واحَةَ الشَّرق، يا أنْت
أيْنَ وَكَيْف غاب ضَحك الأرْز ؟ أيْن ليالي الحَمْراء ؟
ما جَدْوَى السُّؤال … والأرْز أوراقُهُ تتساقَطُ دموعاً
يَسْتَشْهِدُ واقِفاً في ساحة الجليد
ها هم يَغْتصبون آلافَ السِّنين
من تاريخ أرضٍ، وأرض تاريخ،
يرتفعُ صَوْتُ لبنان مُسْتَغيثاً في الجَبَل
ويكْتوي حُزْناً في البِقاع
وَيَنْتَشِرُ في الجنوب الأعْزَلِ
الذي لم يَعُدِ أَعْزَلَ
*****
مَساءُ السِّلاح،
مساء يَتَسَرَّبُ إلى النّوافِذِ المُغْلَقَهْ
والأبوابِ المُقْفَرَهْ.
صباحُ السّلاح، صَباحُ يَبْصُقُ دَماً
يَحْمِلُ الأثْقالَ في مُسْتَنقَعٍ،
على الجَمْر والنِّيران المُلْتَهِبَهْ.
أصْواتٌ تُرَتِّلُ تَسابيحَ الرصاص في صَدَى صَداها
بيروت لم تَعُدْ تَعْرِفُ لا العويلَ ولا الأنينَ
هي العويلُ والأنينُ
وانْفجارُ بُركان
*****
اللَّيْل والنَّهار نائمان في عُيون بيروت
على ضفاف البُيوت والخراب، والعوالِم سكوت
والخرابُ لا يسْجُدُ في قُنوت
ولن يُسَبِّحَ في خُشوع الهَلَع والقُنوط
في بيروت فقط يَرْتَفِعْ صَوْتُ الأذان
ويُقْرَعُ جَرَسُ الأجراس
والجموع تُرتـِّلُ تَسابيحَ نِهايَةِ الرصاص في صَدَى صَوْتِها
يا زمانَ القَهْر، أيْن غابت زَهْرَةُ بَيْروت ؟
أيْن اخْتَفَتْ طُيور المَساء ؟
اِنْتَشَرَتِ الحَفّارات، تَخْنُقُ أصْواتَ المآذِن
تُكَسِّرُ رَنينَ الأجْراس
*****
غاب التّتارُ، وجاء التتارُ.
يَنْشُرون الرُّعْبَ والدّمارَ والثبورَ،
وَفي كلّ بَيْتٍ خَنْدَقٌ ومِتْراس
يُريدون مَحْوَ تاريخ الأرْضِ
هي سَماء بَيْروت تَقْطُرُ دماً أرْضاً،
هكذا حَدَّثَتْنِي بَيْروت، يا سماء
*****
أبْحَث عن بيروت ليْلاً وَنهاراً، أُسْطُورة شَكْلاً قَمراً
نَجْماً، هي الشّكل في مُنْتَهَى السُّفورِ، تَرتَمي خَلْفَ
المَسالِكِ في منْعَرج الجنُوب…
*****
هُناك تَحْيا بَيْروت الشَّهادَهْ
بَيْروت مسافَة قَدَمٍ عَبْرَ كُلِّ الأقْدام
أحِنُّ إليك يا بَيْروت، يا شاطِئَ الزَّمانِ عَبْر كُلِّ
الأزمانِ في الأفلاك… أ ب ج د ه و ز
من شاطئ إلى شاطئ، ومن خَنْدَقٍ إلى خَنْدَقٍ،
أسطورة الزَّمان إلى الزّمان.
من صَوْتِك يا بَيْروت أَغْزِلُ حُروفي،
أسيرُ في مَسار
يَشُدُّنِي الشَّغاف والحَرائق،
وألْتَقِطُ ما تَبَقَّى مِن الزنابق
وأوراق الرَّيْحانِ لِقبورِ الشُّهَداء
*****
وأعود لأنْسُجَ الخُيوطَ من مَرْفَأ إلى مَرْفَأ
أنْتَهِي ولا أنْتَهي في الهَجْس والهَمْس،
وأشْرَبُ كأس عَرَقٍ من كأْس إلى كَأس…
سِرّ الأسْرار، وأقِفُ قُبالةَ القُدْس فَوق كلّ رَمْس..
من رموس شُهَداءِ أطْفالِ الحِجارَهْ
قالت بَيروت: اِرْتَدَيْتُ العَباءَةَ والطَّربوشَ، وتَيَمَّمتُ
وافتَرَشْتُ الحَصَى، وَوَضَعْتُ الكُوفِيَّةَ،
وَحَمَلْتُ البُنْدُقِيَّة، وأَشْهَرتُ المُسَدَّسَ
وتَغَرَّبْتُ من هَوْل على هَوْل إلى هَوْلٍ،
في هَجْعَةِ اللَّيْل من أجْل ضَوْءِ الصَّباح
لا شَيْءَ بعد الآن،
*****
أُريد أن أكونَ وطناً لِكُلِّ الغرباء، وهم ليسوا غرباء،
أهْلِي وأحِبّائي
يَدي مَمْدُودة من الماء إلى الماء يا وَطَن يا كَأسُ،
يا نَفَسُ.
مُنذُ كُنْتِ يا بَيْروت، كانَتْ بَيْروت ضوءاً في العَتَمَهْ،
وَضَوْءاً في الظُّلْمَة، وفيْروز غير نائمهْ
في قِمَّةِ الجَبَلِ، تُرتِّلُ لَحْناً بَعْلَبَكيّاً، تُنادي بين الأعْمِدَهْ
يا أحِبّائِي أنا ها هنا، حيث ! أُنادِي الأرْزَةُ والبندقِيَّةُ والكوفِيَّةُ، والهِنْدامُ الأنيقُ
جاءتْ العاهِرَة العبريّة اليابِسَة، خَلْف الخَميلهْ
فأحْرَقَتِ الأرْزَةَ الجَميلَةَ، وَقَذَفَتِ البُنْدقِيَّة الأصيلهْ
وَمَزَّقَتِ الكوفِيَّةَ على الأكتافِ، وَشَوَّهَتِ الهنْدامَ الأنيق.
وَفَرَّقَتِ الأحْبابَ
*****
جَلَسَت العبرية في عُرْيِها تَتَبَرَّج، وَتُرَدِّدُ: أنا عاهِرَة هذا
الزَّمان من يدفع ؟
رَأَيْتُ بَيروت، رَأَيْتُ دَمْعَها على خَدِّها،
رَأَيْتُ في بيروت بين جَنَبات الأرصِفَة والحُفَر
وآلاتِ الهَدْمِ والدَّمارِ، والحَفّارات
تَرْمي المَوْتَى في ظِلِّ الشَّمْس وشَمْس الظّلال،
العَسْفُ يَنْتَزِعُنِي من مَخْدَعي، تأخُذُني شَهْوَةُ الريّاح الأرْبَعهْ من الخليج إلى المُحيط،
تَقْذِفُني إليك يا بيروت، ترْميني فأعبُر الأشْواق
أرْتَطِمُ بِالأحْزان، وَيَكْبُو فَرَسي على فَرَسِي
قُلْتُ، وقالت بيروت: فَضائي لم يَعُد فَضاء
كل ما لا أعْرِفُهُ أعْرِفُهُ الآن، وكل ما كنت أشْتَهيه
يودون أن أتقيَّأه
*****
وكلّ ما أُحِبُّهُ يرغبون أن أكْرَهَهُ، هو الرُّعْبُ المُبْهَم،
يَشُدُّ مَفاصِلي،
يَغْرِزُ في بُؤبُؤ العَيْن إبَرَ الحِقْد الأصْفَر
وَيَزْرَع في الحُقولِ حَناظِلَ.
بيروت لَنْ تَسْقُطَ، أرادوا اغْتِصابَها في لَيْلَةٍ مُظْلِمَهْ
بَعدما غابَ الضِّياءُ
بيروت لَنْ تَرْكَعَ لِخرابِ الأرْضِ
لَنْ تُوَدِّعَ الرَّبيعَ في لَيالِي الصَّيْفِ
لا في بِداية الخريف، ولا في نهاية الشتاء
كيف لبيروت أن تَتْرُكَ أمْتِعَتَها وأشياءَها
الصغيرة والكبيرهْ
كيف لبيروت أن تَعيشَ في قَهْر العَسْفِ، وفي شَظَفِ العَيْش
بدون رغيفٍ، بدون حُمُّصٍ، بدون فَلافِلَ
بدون توابِلَ مضغوطة، بدون قهوة مضبوطة
*****
بيروت لن تُسَلِّمَ مفاتيحَ عُيونها، مَفاتيحَ أمتِعَتها
عنوان بيروت مَكْتوبٌ بِحروفٍ فينيقيّه عربيّة
من آل المَسيح وآل محمد
وسُعاة البَريد لن يضيعوا عُنْوانَ بيروت
بيروت باقيهْ وغير باكيهْ
يَدي مَمْدودة من الماء إلى الماء يا وَطَني الثاني،
يا كَأسُ، يا نَفَسُ
هي القُدْسُ وَحْدَها مدينة المَدائِن تُرْسِلُ أشعَّتها،
تَئِنُّ لِحصارِ بَيروت
في محْراب الصَّمت والغُربة والنَّفي
رَأَتْ بيروت القُدْس بِعُيون القُدْسِ، تَحكي المرارة
تحكي تاريخَ التّاريخِ
والقُدْسُ تَمْسَحُ دُموعَ بيروت، وبيروت
تَحكي بلُغَة القُدس
تَوْأَمَة في لَذَّة المَتاهات ولَيالي الخِيام.
باريس، 1982/11/12
* كتب هذا النص بعد حصار بيروت.