أن تكتب في دولة سلطوية

0

لطالما كانت الكتابة عملاً نبيلاً شريفاً يقصد به التذكير والتعليم والتقويم والتشريع وأحياناً المقاومة، ولأن تكتب في دولة سلطوية لا تعرف سوى طاعة الأوامر فأنت كمن يطلق رصاصاً لا حبرًا، فالكتابة بشتى أنواعها حتى لو كانت قصصاً للأطفال هي نوع من المقاومة بالفكرة ونشر للوعي وإيصال للأفكار وتنبيه من ظلم أو صد لخطر!

على مرّ العصور كانت الكتابة مشنقة لبعض أصحابها وقد عادت السلطوية مفكرين وباحثين لمجرد أنهم -فقط- كتبوا، وقد كانت السلطوية العربية الحديثة سبّاقة في هذا المجال، فعلى مدار قرن من الزمان ضُيّق على كل من آذى السلطوية بطلب الديمقراطية والحرية والعدالة، وللسلطويات العربية الحديثة منذ أن سقطت الدولة العثمانية وقامت دول قومية على أراضي العرب سجل حافل بقصف الأقلام وتمزيق الأوراق، وعلى مدار قرن من الزمان مُلئت صحائف السلطوية بكتابتها التي ترجوها وليس بكتابة رشيدة تبني مجتمعاً عاقلاً وواعياً، وظهرت كتابات السلطة التي لا تقيم إلا سفهاً وتهدم أكثر مما تبني، وعلى مدار تاريخ السلطوية العربية كان لكل نظام كُتّابه الذين رأوا فيه مخلّص العرب من كبوتهم، مرّة باسم الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية ومرة أخرى باسم القومية العربية ومرة باسم الانفتاح ومرة باسم الاشتراكية، ومرات باسم التبرير لحكم العسكر. وعلى هذا ظل الممسكون بقلمهم يكتبون بتمسك رشيد بالمبادىء والقيم يعانون من بطش السلطوية العربية.

وإن كنّا نجد أن عرّاب تشخيص مرض القرن الماضي «الكواكبي» يقول في طبائع الاستبداد: «والمستبد عدو الحق، عدو الحرية، وقاتلهما. والحق أبو البشر والحرية أمهم والعوام صبية أيتـام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم أخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبّوا، وإلا فيتصل نومهم بالموت»، عرف الكثيرون من أرباب الأقلام الحرة دورهم المحوري في بناء المجتمعات.

وكذلك دأبت تلك السنة عبر تاريخ الدولة العربية السلطوية بمختلف أشكالها «جمهورية أو ملكية» أن الكتابة الحرة تمثل ناقوس خطر لها، وتناست السلطويات أن الحرية أساس لكل بناء قويم وأن كبت الأقلام إيذان بنهايتها، وأن الكتابة الحرة تؤسس عقولاً نيّرة قادرة على البناء ونشر الوعي وإقامة الدولة الفاعلة، وتناست درس التاريخ الطويل أنه ما من قوة عادت الحرية إلا وكُسرت.

منذ صغري أحببت الكتابة وأيقنت تمام اليقين أنها طريق قويم انتهجه ذوو الألباب، وظللت أكتب وأكتب حتى غلبني اليأس مرات لما أراه من حولي، فأنا شاب وُلد في دولة سلطوية وعاش وتنقل في بلد عربي عانى فيه جده وأبوه من حكم السطوية، أيقنت أيضاً أنه لا طريق نحو التقدم سوى بالحرية وأنه لا تبنى ممالك ولا دول تسعى في خدمة الإنسانية بحكم السلطوية، أيقنت أيضاً أن الكتابة هنا تقودك إلى المشنقة أحياناً، ومن ثم داهمني شعور الخوف المحيط والخطر المحدق الذي يترصد لكل حامل قلم أو كتاب!

أن تكتب في دولة سلطوية يعني أنك مخيّر بين طريقين أحدهما أن تكون من أُسارى الاستبداد وتقود نفسك لأن تكون في صفحات التاريخ السوداء وألا تُرحم في ذاكرة الأحرار، أو أن تسلك طريقاً وعراً تلتفت فيه يميناً ويساراً خشية الوقوع في المصائد، أن تحسب لكل حرف ألف حساب، أن تقضي معظم الأوقات قلقاً جراء كلمة كُتبت في مقال أو دراسة، أن تسأم الكتابة في بعض الأوقات نظراً لقلة جدواها في بلاد وصل فيها الأميون إلى كراسي السلطة!

أن تكتب في بلاد السلطوية العجيبة يعني أن تقاد إلى حبال المشنقة بسبب كتاب، مثل «سيد قطب» الذي لم يكن خطيباً مُفوهاً أو قائداً تنظيمياً ولم يكن سوى مجرد كاتب!، أو أن تقضي ما تبقى من عمرك في السجون بسبب أبحاث علمية كما جرى مع الباحث الشاب إسماعيل الإسكندراني أو أن تُمنع من العودة إلى بلادك مرة أخرى مخافة الاعتقال أو التشريد، أو ربما ينتهي بك الحال مقتولاً من زبانية سلطة بلادك في بلاد أخرى كما حدث مع الصحافي جمال خاشقجي الذي لم يكن يمتلك سوى عامود في صحيفة الواشنطن بوست، وقلمٍ طاف به في مشروع إصلاحي بنّاء.

The post أن تكتب في دولة سلطوية appeared first on عربي بوست — ArabicPost.net.

قد يعجبك ايضا

اترك رد