أمي.. كل عام وأنت في رحمة الله
أمي.. كل عام وأنت في رحمة الله
ما زلتُ أذكر ذلك اليوم، في ذلك الزمان البعيد، منذ 31 عاماً، حينما كنت في الخامسة من عمري، كان أول يوم مع فريضة الصيام، كان الجو حاراً جداً، وكنت صائماً بفضل تشجيع أمي لي أنا وأخي الذي يكبرني بعامين، كان النهار طويلاً كالآن تماماً، لم يغِب عن ذهني ذلك المشهد الذي كان يجسد معاناة البسطاء من سكان القرى المحرومين من كل شيء.. شعارهم الكفاح، لكن ما كان يحيرني هو ذلك الرضا بما أنعم الله عليهم ولو كان بسيطاً، وتلك السعادة التي كانت تبدو على وجوه أغلبهم.
بعد صلاة العصر، حينما عدتُ مع والدي -أطال الله بقاءه ومتعه بالصحة والعافية- من المسجد، كنت أتضور جوعاً، (لكن بيني وبينكم كنت بتحدى أشرف أخويا على الصيام لأنه كان أكبر مني بسنتين)، وهذا ما ألاحظه على ابني «أحمد»، الذي يخوض تجربة الصيام بكل حب وتحدّ وتنافس أيضاً مع أخيه «عبدالله» الذي يكبره أيضاً بعامين، لكن مع الفارق، فجيلي لم يكن يتمتع بوسائل الترفيه الحديثة، وما كنا نعده ضرورياً لم يكن متاحاً أيضاً.
فأذكر مثلاً أننا لم يكن لدينا ثلاجة.. وكان لدى أحد الجيران واحدة، ربما لم يكن يوجد غيرها في المنطقة.. ومن يُسعده الحظ يضع كوباً لديه في تلك الثلاجة ويحصل عليه مثلجاً قبل أذان المغرب بقليل؛ ليصنع منه التمر أو يشرب منه الماء البارد، وبما أنه كان من أقاربنا، وكان والدي قارئ المسجد وإمامه، فلم يبخل علينا بهذه الخدمة.
أذكر أن أمي كانت ترسلني لإحضار ذلك الكوب المثلج، فأحضره وكأنني جئت بما لم يأتِ به الأولون والآخرون، فضلاً عن أنه لم يكن لدينا إلا «مروحة مكتب» تعمل في «وسط البيت»، كما نقول عليها في الفلاحين أو «الصالة»، ويا سلام حينما يداعب الهواء البارد وجهي، كنت أشعر أنني في الجنة، بل كنت أقول في نفسي: لا بد أن الجنة مملوءة بهذه المراوح التي تلطف الجو على المؤمنين والصائمين والصالحين حينما يصعدون إلى خالقهم.
ووسط هذا الجو الحار، وهذه الإمكانيات المحدودة، لفت انتباهي وجه تلك المرأة البشوش (أمي رحمها الله) التي كانت تجلس أمام (الكانون)، وهو ذلك الموقد البلدي، عبارة عن قوالب من الطوب مرصوصة على شكل حرف «u» تضع عليه قدراً كبيراً، وتقوم بإشعال النيران تحته، كانت تطهو لنا طعام الإفطار.. والعرق يتصبب فوق جبينها بل وعلى ملابسها.. وهي صائمة، كم كانت تعاني من أجل تجهيز ذلك الطعام، وكلها فرح وسعادة.. ما اشتكت يوماً.. بل كانت تكافح لتربيتنا مع والدي.
لم تكُن تمتلك ذلك «البوتاجاز» الذي يدار بالإشعال الذاتي، والذي هو الآن لدى زوجتي.. حينما كبرت وأصبحت رباً لأسرة أتعجب كيف كان أبناء ذلك الجيل؟!.. أي طيبة هذه!.. وأي تفانٍ!.. وأي رضا بما قسم الله!.. وأذكر أنها في ذلك اليوم قالت لي: «إحنا في نعمة كبيرة.. دايماً تشكر ربنا.. وبعدين الحلال اللي بنربيكم بيه هتشوف إن شاء الله هيطلع منكم إيه!».
وأنا أذكرك الآن يا أمي رحمك الله، أقول لك: نعم هذا الحلال هو ما جعل منا قارئ القرآن والمحامي والشرطي والمحاسب والتاجر الصدوق، وكاتب هذا المقال.
كل عام وأنت في رحمة الله يا أمي.
اقتراح تصحيح