أميركا وبريطانيا تعاملتا بـ «براغماتية» مع الإسلام، لكن الوضع يختلف في فرنسا.. كيف يسعى ماكرون لصياغة إسلام يتوافق مع مبادئ العلمانية؟
قالت مجلة الإيكونوميست البريطانية، إنه في كلٍّ من أميركا وبريطانيا، كانت إحدى القضايا المحورية هي كيفية تصنيف جماعة الإخوان المسلمين العالمية، وهي حركة غير محكمة التنظيم، هدفها الظاهر الترويج لأشكال الحكم الإسلامي، ويستخدمون المؤسسات الديمقراطية في أي مكان وُجدوا فيه.
حيث ضغطت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية خاصةً ضغوطاً قوية على أصدقائهم الناطقين بالإنكليزية لحظر الإخوان؛ ومن ثم المشاركة في الجبهة الدبلوماسية ضد قطر، التي تعتبر الصديق الأقرب للإخوان في منطقة الخليج، حسبما قال تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
بريطانيا لم تنجرف إلى مساحة تصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية
قبل عامين، بدا الحزب المحافظ الحاكم ببريطانيا كأنه يتخذ خطوات في ذاك الاتجاه، غير أنّه تراجع. فقد توصل تحقيق حكومي تناول جماعة الإخوان المسلمين، نُشر جزءٌ منه في ديسمبر/كانون الأول 2015، إلى أنّ الجماعة، رغم أنَّها ظاهرة مختلفة عن الجماعات الإرهابية تماماً مثل «القاعدة»، يمكن في بعض الأحيان أن تكون بوابة للعنف، وأن ادعاءات الجماعة أنها ستكون حصناً مفيداً ضد الإرهاب يجب أن يُنظر إليها بعين الشك.
وبعد عامٍ من ذلك، توصلت لجنة برلمانية بريطانية إلى أن الدراسة الأولى كانت مجحفة للغاية في إدانتها الإخوان، وبدا في ردِّ الحكومة على هذه اللجنة، أنها تقر بأن هذه الانتقادات قد يكون لها أساس من الصحة.
فعلى سبيل المثال، أقرت الحكومة بأنَّ البرلمانيين كانوا مُحقِّين عندما قالوا إن «الغالبية العظمى من المنتمين إلى تيار الإسلام السياسي غير منخرطين في العنف».
حتى أميركا نفسها لم تفعلها، وظلت على موقفها من اعتبار الإخوان منظمة سلمية
وفي الوقت نفسه بالعاصمة واشنطن، تضم إدارة ترمب الآن العديد من الشخصيات البارزة التي لها باع طويل في المطالبة بإدراج جماعة الإخوان المسلمين بقوائم الجماعات الإرهابية.
بل إنّ مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركية، وجون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي، يتبعان نهجاً أكثر تشدداً بهذه القضية ممن سبقوهم مباشرةً في شغل مناصبهم.
وفي شهر مايو/أيار 2018، عُيِّن أحد أشد المشككين في الإسلام، ويدعى فريد فليتز، بمنصب كبير الموظفين في مجلس الأمن القومي.
لكن الإدراج في قوائم الإرهاب، الذي كان من الممكن أن يؤدي بدرجة كبيرة إلى حظر الجماعات الإسلامية الأميركية التي يُنظر إليها على أنها قريبة من الإخوان أو حتى ملاحقتها قضائياً، لم يحدث حقاً.
يستنتج أحد المراقبين من كثب للسياسة الأميركية في التعامل مع الإسلام، أنّ هذا الأمر يعني «الضغط على زر التوقف المؤقت»، ولكن دون استبعاد أيٍّ من الخيارات القائمة.
لكن الوضع يختلف مع ماكرون الذي يحاول تشكيل الإسلام في فرنسا
لنقارن كل هذا بإصرار ماكرون، الذي يظهر أنّه لا يفتر لإعادة تشكيل الإسلام في فرنسا؛ لإضعاف علاقاته بالدول الأخرى أو قطعها، ولإعادة تنظيم الدين على نحو يمكن أن يكون متوافقاً تماماً مع مبادئ الجمهورية الفرنسية.
وهنا تكمن المفارقة، في تعامل الدول الغربية مع الإسلام كدين، والجماعات الاسلامية المنسوبة إليه؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، أظهرت الحكومات التي تلتزم باحترام الحقوق السياسية شيئاً من البراغماتية في تعاملاتها مع ثاني أكثر الديانات انتشاراً بالعالم.
أما في فرنسا، فتتبع الإدارة الفرنسية، بقيادة إيمانويل ماكرون الوسطي الراديكالي، نغمة من التعصب الأيديولوجي؛ إذ تتعهد بإعادة صياغة الإسلام وجعله متوافقاً تماماً مع روح الجمهورية العلمانية.
تعتمد خطة الرئيس على أن «استئناس» الدين سيسمح بعلاقات أسعد بين المواطنين المسلمين والمواطنين غير المسلمين في فرنسا.
صرح ماكرون، في شهر يوليو/تموز 2018، بإصرار، بأن «فرنسا ليس لديها أي سبب لتواجه صعوبات مع الإسلام». في حين كان يؤكد عزمه على إصلاح التعاطي مع الإسلام في فرنسا بحلول نهاية العام (2018).
أحد كبار مستشاري الرئيس، في هذا الصدد، هو شخص ارتدى عباءات الكثير من العوالم الثقافية؛ إذ عمل سابقاً مصرفياً استثمارياً وله أصول إسلامية جزئياً، يُدعى حكيم القروي، وقدم الشهر الماضي (سبتمبر/أيلول 2018)، التقرير الأخير من بين سلسلة تقارير تتناول ظاهرة الإسلام السياسي، وعن الأشكال المختلفة الأخرى للتعصب الإسلامي، وعن عملها حول العالم أو في فرنسا.
ويتسم تحليله للمشهد الإسلامي في فرنسا بالتشاؤم والتفاؤل في آن واحد. فحكيم القروي يجهر باستنكاره التأثير غير المتناسب للإسلاموية (وهي بشكل عام، فكرة استخدام الدين كأداة ضغط سياسي)، وأيضاً المعتقدات الدينية الأصولية السلفية.
ولكنه أيضاً لديه الإصرار نفسه على أن معظم المواطنين الفرنسيين ذوي الخلفيات الإسلامية يتحاشون هاتين الأيديولوجيتين، ولمح إلى أنه يجب على الدولة أن تتدخل لتأكيد مصالح هذه الأغلبية الصامتة نسبياً. وطرح فكرة إضافة الضرائب على المأكولات الحلال، كسبيل لتوليد الأموال لتمويل العبادات والتعاليم الإسلامية في فرنسا.
يعتقد جوناثان لورانس، الأستاذ الجامعي في كلية بوسطن والذي راقب الإسلام بأوروبا عدة سنوات، أن إدارة ماكرون ما زالت مترددة بين التزام الرئيس المعلن بتقديم إسلام فرنسي «مستقل»، وفوائد التعاون في بعض المجالات مع الدول التي ترسل مهاجرين إلى فرنسا، مثل المغرب.
ويرى لورانس أنَّ مجهودات صياغة سياسة متماسكة تجاه الإسلام عانت انتكاسة مع الأخيرة لجيرار كولومب من منصبه كوزير الداخلية مؤخراً، وهو شخصية عنيدة «لم تنكر حقيقة الروابط بين مسلمي فرنسا والسلطات الدينية في بلاد أجدادهم»، حسب قوله.
وأضاف أن كلاً من ماكرون والقروي يصر على أن هذه الروابط بأرض الأجداد يجب أن تنتهي، ولكنهم لم يَصلوا بعدُ إلى بديل مقنع تماماً.
يقول شادي حميد، الزميل الأول بمعهد بروكينغز في واشنطن، إنَّ هدف ماكرون المعلن بإعادة تقديم الإسلام الفرنسي يشير إلى تدخُّل عميق في شؤون الدين، لا يمكن تصور حدوثه في الولايات المتحدة لأسباب دستورية.
ويعتقد حامد أن «القروي» يستحق الإشادة؛ للعمل على تحليل دقيق لظاهرة الإسلاميين، لكن مثل هذه الأمور المعقدة كان من النادر مناقشتها في دوائر النخبة بباريس؛ ولذلك ثمة سبب كافٍ للخوف من أن أي تدخُّل فوقي من الدولة في الإسلام الفرنسي سيكون أمراً ذا وطأة بالغة.
في النهاية، هناك بعض المشكلات التي تظهر في كل مرة، تتعامل فيها دولة علمانية، بشكل أو بآخر، مع دين يعتنقه الملايين بدرجات مختلفة من التعصب، وبأشكال مختلفة ومتعددة.
فإذا وجدت الدولة العلمانية نفسها تميل لصالح مدارس معيَّنة لها معتقدات معينة أو خلفيات تاريخية معيَّنة، على أساس أنهم «آمنون» ويسهل التعايش معهم، فإنها لم تعد علمانية بصورة أو بأخرى.
معظم الدول الحديثة (ومن ضمنها الدول التي تتسم بالثيوقراطية المهترئة مثل إنكلترا) لا تشعر بالارتياح عندما تخوض في الشؤون الدينية. لكنَّ تماسُك المجتمع وأمانه ككل يتطلبان منهم فعل ذلك. وهذه مشكلة بالنسبة للبراغماتيين الأنغلوساكسونيين والأيديولوجيين الأوروبيين على حدٍ سواء.
The post أميركا وبريطانيا تعاملتا بـ «براغماتية» مع الإسلام، لكن الوضع يختلف في فرنسا.. كيف يسعى ماكرون لصياغة إسلام يتوافق مع مبادئ العلمانية؟ appeared first on عربي بوست — ArabicPost.net.