أفاية يستعيد انتصار “سياسات الهدر” في تجربة حكومة اليوسفي

0

لقد غلبت على ظرفية تشكيل حكومة التناوب مع عبد الرحمن اليوسفي، كما هو معلوم، اعتبارات سياسية كبرى وأسئلة من طبيعة تاريخية ارتبطت، بشكل كبير، بقضايا تتعلق بطبيعة الدولة التي يتطلع إليها المغرب: دولة المواطنة، والعدالة، والمصالحة، والإنصاف، والاعتراف، حيث دخل المغرب في منعطف مثير على صعيد بناء الخطاب السياسي الوطني، ووسع من مساحات القول المتاحة لتيارات الفكر والرأي، وطرحت أسئلة كبرى على التاريخ، والهوية، والرموز، واللغة والسياسة، والدين…الخ وانشغلت النخب، بكل انتماءاتها، بقضايا العدالة الاجتماعية والتوزيع المنصف للثروة، والعدالة الانتقالية، لتصفية الحساب الهادئ مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والتحرر التدريجي من اختناقات الصراع السياسي السابق، والانخراط في أفق جديد يؤسس لكتابة تاريخ سياسي وطني.
ولهذا السبب مثلت المرحلة منعطفا على أكثر من صعيد، سياسيا بإطلاق بشائر تهم مصير الانتقال الديمقراطي نحو التطلع إلى تثبيت قواعد الديمقراطية وتعزيز آلياتها وأنماط اشتغالها؛ وثقافيا بتوضيح العلاقة مع الزمن المعاصر، وإقامة التركيب الحي بين الرموز الوضاءة للتراث والفكر العصري، على أن يعمم هذا التركيب على كل مستويات الحياة ابتداء من التعليم والتواصل، إلى مجالات التعبير الحديثة والمرأة والمدينة. وقد حصل نوع من الوعي بأنه لم تكن من مصلحة أحد أن يترك صراع الذاكرات لقوى لا هم لها سوى تكريس الغموض وإشاعة الفكر الارتكاسي، وزرع أسباب الفتنة.
ومعلوم أن لحظة الانتقال إلى الديمقراطية، في كل الحالات، تحتاج إلى درجة كبيرة من السمو ومن ثقافة الاعتراف بتأسيس رأسمال ثقة جديد يمثل قوة دفع لدولة حديثة تقر لناسها بصفة المواطنة وتنشر قيم التمدن والعدالة والحرية. وهذا ما استدعي تفاوضًا وإنصاتًا ومناقشة، وأيضا ترتيبًا لشروط اتخاذ القرار الحزبي والوطني، وتأطيرا لتفاصيل الممارسة.
وقد بدا هذا الاختيار السياسي، مغربيا، خصوصا بعد محاولات التفاوض الفاشلة على التناوب سنة 1994، بدا هذا الاختيار وكأنه سجين تطلع مثالي أو نتاج خطاب أخلاقي، لكن أليس كل خطاب أخلاقي بقدر ما هو متخيل هو ضروري مهما كانت اعتبارات السياسة ومكر التاريخ؟ وهل هناك من اختيارات أخرى غير الالتزام بمبادئ الأخلاق أو الانخراط في التوحش؟ كان سبينوزا يعتبر أن كل أخلاق هي أخلاق مُتخيلة، كما هو الشأن بالنسبة للجَمال وبالنسبة لأية قيمة كانت. ولكن من يمكنه الاستغناء عن القيم، حتى وإن يتردد دوما أن السياسة يصعب إقحام القيم في حيثياتها؟ فالإنسان بدونها لا قيمة له، لأن الأخلاق هي تَخيُّل كبير تعمل إرادة ما على ترجمته إلى فعل الخير. لذلك فالفضيلة أقرب إلى كونها عملا وجهدا وإبداعا أكثر من أي شيء آخر.
والفضيلة، في حالة المغرب، افترضت القول بأن المغرب عاش، بفضل تجربة التناوب، منعطفا في سياق انتقالي طرح أسئلة جوهرية حول مساره للاستقرار على قواعد تحصن الاختيار الديمقراطي، وتتجاوز عناصر الهشاشة التي ما تزال تميز العديد من المؤسسات والبنيات والخطابات. وأعتبر أن كتاب ” عبد الرحمان اليوسفي، دروس للتاريخ”، وإن ركز على الجوانب الاجتماعية لحكومة التناوب فإنه، في العمق، يتساءل عن ممكنات تعزيز الاختيار الديمقراطي، وتقوية شعور الناس بالكرامة، والحد من الفوارق بين الجهات والناس، وتحصين المجتمع بتعاقدات كبرى حول المتطلبات الاجتماعية، وبثقافة عصرية تعلي، حقّا، من شأن الإنسان.
والمؤكد أن عبد الرحمان اليوسفي، باعتباره من مهندسي تجربة التناوب، شخصية تمتلك كثافة سياسية ورمزية لا تشبه غيرها من الشخصيات السياسية التي عاصرها واحتك بها وتصارع أو تفاوض معها، وقد جرَّب العديد من الاختيارات في السياسة، لكنه بقي، مع ذلك، يسكنه انشغالا دائما يميل فيه دائما إلى الواقعية، لأنه كثيرا ما يختار تغليب منطق الممكن، باعتبار أن كل التزام سياسي هو ملتقى قناعات وسياق مركب يحدد سقف الممكنات والوسائل المتاحة للانخراط في فعل سياسي يحمل في ذاته مخاطرات. وقد التقى في هذا المنحى مع عدد من قيادات حزبه، كما عانى معاناة كبيرة، أيضا، من النزعات المخالفة لهذا المنطق في صفوفه الحزب الذي انتمى إليه وقاده في فترة مفصلية من تاريخ الصراع الحزبي والسياسي المغربي. وقد سجل رفيقه عبد الواحد الراضي في كتابه ” المغرب الذي عشته- المركز الثقافي للكتاب” بعض أسباب الخلاف في النظر إلى الممارسة السياسية، ذلك أن “الفعل السياسي، كما يقول، عمل متعدد الأساليب… هناك الفاعل السياسي الذي يبني موقفه وفعله على أساس سياسة الممكن… وهناك بعض الإخوة الذين كانوا يعيشون السياسة كأسطورة، أي السياسة كممارسة مثالية رومانسية، والمثالية تخلو من أي بعد واقعي، ولذلك فهي تسبغ على الفعل السياسي طابعًا أسطوريًا”( ص 399-398).
من هنا تتقاطع معطيات كتاب ادريس الكراوي عن صعوبات إنجاز الإصلاح في بلادنا، في حكومة التناوب وفي غيرها، مع شهادة عبد الواحد الراضي الذي كان من المواكبين لهذه التجربة من موقعه الحزبي والسياسي والمؤسسي، حيث أكد على أن ما جرى سنة 1998 من تناوب، لم يكن تناوبا نهائيا باعتبار أن الحديث عنه يفترض، كما يقول، “أنك أصبحت تتوفر على سلطة، وأنك تقود حكومة تمارس الحكم فعليا. ولكن تلك الحكومة لم تكن تملك سلطة كاملة، بحكم دستور 1996 نفسه… صحيح كان علينا أن نفتح الباب لأفق مختلف يتخطى المأزقية السياسية التي دخلت فيها علاقة الحكم باليسار، ومعنَا تحديدا… لكن السياسة، وقد قالها سي عبد الرحمن بكل وضوح ليست فيها ضمانات.. السياسة لا تخلو من قدر من المخاطرة، ولكنها مخاطرة محسوبة والفاعل السياسي لا يمكنه أن يفعل شيئا إن لم يخاطر، ومعناه أنه قد ينجح وقد لا ينجح” (المرجع نفسه، ص 654 ). ويعتبر الراضي أن المغرب حين أفسد “التعددية جرى المساس بأي مشروع للتناوب”، بل وتمّ “تعميم الانتهازية واللاكفاءة والوصولية والتزوير والغش حتى باتت هذه الظواهر تصبح كما لو أنها سلوك عادي”. ويضيف بحكم أننا لم ندخل، في المغرب، في ما أسماه ب”الروتين الديمقراطي بالمعنى النبيل للتعبير، أي أن نُدخل الديمقراطية في ثقافتنا السياسية، في مسلكياتنا السياسية وفي رؤيتنا للعالم”، فإن “انتفاضة” الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي بعد ما جرى في 2002 تبدو في منتهى الدلالة والقوة، وتعبر عن “شجاعة سياسية” حين جهر بنقد ذاتي صريح وبنقد سياسي واضح للفاعلين الأساسيين في الحقل السياسي الوطني.
ولعل كتاب ادريس الكراوي عن السياسة الاجتماعية لحكومة التناوب يُبين، بالوقائع، بعض تجليات مقاومات الإصلاح، والجهات التي اجتهدت وتجتهد لإفساد العمل السياسي الذي هدّد ويهدد متطلبات العمل الديمقراطي في المغرب. والمؤكد على أن الكتاب لا يعرض لكل القضايا الاجتماعية التي أدارتها حكومة التناوب، وإن كان صاحبه يدعو إلى التعامل معه خارج الاعتبارات الأكاديمية والتاريخية، فإنه يتيح إمكانيات تسجيل جملة ملاحظات تتعلق بالسياسات الاجتماعية التي وعدت حكومة التناوب بتنفيذها. أولى هذه الملاحظات تتعلق بإغفال قضية من أكثر القضايا الاجتماعية إشكالية في المغرب، ألا وهي المرتبطة بقطاع التعليم، فباستثناء المفاوضات التي جرت من أجل إدماج بعض أصحاب الشهادات العليا، أو حل بعض الأمور النقابية، ليس هناك ما يفيد الصعوبات التي واجهتها حكومة التناوب في عملية ترجمة البشائر التي أتي بها التصريح الحكومي بخصوص قطاع التعليم إلى قرارات تؤسس لتعليم عصري، عِلما بأن الوزراء الذين تحملوا مسؤولية تسييره ينتسبون كلهم لِما كان يعتبر الصف الوطني التقدمي. قد يقال بأن هذا القطاع كانت تشتغل عليه لجنة خاصة لتحضير “ميثاق وطني” برئاسة مستشار ملكي، وهذا معروف. لكن الأمور التنفيذية كانت تحت مسؤولية الحكومة.
والظاهر أن هذه القضية وقضايا أخرى تُبين أنه إذا كان المغرب قد تَعوَّد على إضاعة العديد من الفرص التاريخية، وتبديد العديد من الأفكار والمشاريع الكبرى، فإنني أعتبر أن حكومة التناوب كانت أكثر الحكومات تأهيلا لإنجاز “تعاقد وطني كبير” حول التعليم، الذي لا يمكن أن ينهض وتضمن له الاستمرارية والتراكم المنتج بدون:
– توفير شروط إعادة بناء منظومة تعليمية ببرامج ومناهج عصرية؛
– وضع أطر تنظيمية ومالية منسجمة ومُحفزة لجسم تعليمي، تربوي وإداري، ذي كفاءة حقا؛
– إقرار أطر تضمن سِلمًا مدنيًا مستداما داخل المنظومة.
لم يحصل ذلك مع الأسف الشديد.
وفي ضوء ما يحصل يبدو المغرب، في هذا المجال، ما يزال مستمرا في إضاعة الفرص بإفراغ المسؤولين الحاليين لكل المضامين البانية للرؤية الاستراتيجية التي تم إقرارها من طرف المجلس الأعلى للتربية والتكوين قبل ٤ سنوات، التي أعتبر أنها ما تزال تشكل مرجعية تأسيسية لإخراج التعليم من مآزقه؛ باعتبار أن هذه الرؤية انطلقت من تقييم شامل لمشاكل وأعطاب المنظومة التعليمية في مستوياتها كافة، واستفادت من انفتاحات “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”، وتفاعلت مع برامج واقتراحات الأحزاب والنقابات والخبراء المتخصصين، ونظمت أكبر عملية استماع مع كل الفاعلين والمعنيين بالقطاع جهويا ووطنيا، واستفادت من التجارب الفضلى دوليا. لكن ما تعرضت هذه الرؤية الاستراتيجية من تحريفات وتأويلات مغلوطة في سياق التحضير للقانون الإطار، وما شهدته البلاد من تخبط ميز أساليب تدبير المسؤولين عن هذا القطاع، وتبديل أكثر من وزير في فترة وجيزة، وما واكب عملية بلورة القانون-الإطار من مزايدات متنوعة الخلفيات والغايات، كل ذلك أفرغ العديد من رافعات الرؤية الاستراتيجية من مضامينها ومقاصدها الإصلاحية.
والمغرب يبحث عن “نموذج تنموي” يسعى إلى الحد من الفوارق التي يستحيل الحد منها من دون عدالة تعليمية، لا يسعنا إلا أن نطرح السؤال التالي: اعتبارا لأي منطق وعلى أية قيم ومستندات وطنية يستمر المسؤولون في التشبث بالاختيارات التقليدية في تدبير معضلة التعليم في بلادنا؟ وكيف يمكن استساغة تشجيع المبادرات الرِبْحية في قطاع التعليم بدعوى الانفتاح وتنويع مبادرات “القطاع الخاص” ومؤسسات البعثات الأجنبية، والإصرار على إضعاف المدرسة العمومية، عِلما بأن أكثر البلدان ليبرالية لا تسمح بجعل قطاع مصيري كالتعليم مجالا للربح والمتاجرة؟
وفي الأخير، وبالعودة إلى كتاب ” عبد الرحمن اليوسفي؛ دروس للتاريخ”، وإذا تركنا جانبا موضوعات التناوب والاستعصاءات السياسية التي واجهته يبدو لي أن ما يميز هذا الكتاب يتمثل في الإعلان العمومي لصاحبه عن نمط خاص من الوفاء لشخص عبد الرحمن اليوسفي. وإذا كان الوفاء، حسب ابن حزم الأندلسي يعتبر ” من كريم الشيم وفاضل الأخلاق… وأول مراتبه أن يفي الإنسان لمن يفي له…”، فالوفاء، كما هو معلوم، لا يعبر عن فضيلة في ذاتها، أو ميزة تخص إنسانا ما، بل إنه لا يرقى إلى مستوى الفضيلة إلا حين يرتبط بقيم المحبة والتقدير، بالمعنى النبيل للتقدير. وإذا اعتُبر الوفاء قرار إخلاص وأمانة ونزاهة وتَعلُّق والتزام، فإنه ينبني على شرط مُؤسس يتمثل في الثقة التي لا تتزحزح كيفما كانت الصعوبات والتجارب والمفاجئات. وحيث إن الوفاء، الذي يَعْبُر جل فصول الكتاب، يجسد تَعلُّقا نَسج مع الزمن بين الرجلين روابطه الخاصة، فإن ادريس الكراوي أراد، في ظني، تبليغ رسالة شخصية لرجل سياسة من طراز مُتفرد، يعتبره قدوة ونموذجا بالنسبة إليه طيلة العقود الثلاثة الأخيرة. مؤدى هذه الرسالة، بالنص والشهادة والصور، يتمثل في الإقرار له بهذا النمط الخاص من الوفاء الذي يصعب العثور عليه في عالم السياسة في بلادنا.

 

اترك رد