يتنكرون كأنهم أشخاص عاديون ليبيعوا أفكارهم في قالب بريء.. «المؤثرون» محاربو عقولٍ عتاة فاحذرهم
هل نحن على طبيعتنا دائماً، أم أنَّ طبيعتنا تتقلَّب وتتمايل متأثرةً بالرفقة والسياق؟ من هم المؤثرون الذين يتحكمون بلا وعي منا في قراراتنا اليومية.
انتشر تعبير «مؤثرون» على منصات التواصل الاجتماعي لترويج منتجات الجمال والموضة، ولكن، ماذا عن الـ»مؤثرين» في الأفكار والقرارات السياسية الهامة.
هل نعلم من هم؟ وأين هي منصات تأثيرهم؟ وأي أفكار يبيعون؟
تُشير كلمة «التأثير» هنا إلى وجود نوعٍ من الكيمياء بين الاثنين، بين طبيعتنا الداخلية والضغط الخارجي، لكنَّها لا تُحدِّد الأقوى بينهما.
فالسلطة تقهرك علانيةً، لكنَّ التأثيرات التي تخضع لها أخبث، إذ يُمكنها أن تتسلل إلى عقلك الواعي دون أن تلاحظها وتبدأ في تغييرك.
بوتين قاد «حملة تأثير» أوصلت ترامب إلى البيت الأبيض
في العام الماضي (2017)، خلص مكتب مدير الاستخبارات القومية الأميركية المسؤول عن تنسيق النتائج التي توصَّلت إليها مُختلف الوكالات، إلى أن فلاديمير بوتين أمر بتدشين «حملة تأثير» لترجيح كفة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية التي أُجرِيَت عام 2016.
نشرت بوتات الإنترنت ودُمى الجوارب -العملاء الروس الذين يتظاهرون بأنهم مواطنون أميركيون عاديون- مُختلف أنواع المعلومات المُضلِّلة والتحاملات على الإنترنت، في الوقت الذي جمع فيه عملاء الاستخبارات الروسية رسائل البريد الإلكتروني من شبكات الـD.N.C.
حملة لعبت على وتر التمييز العنصري والعرقي
استغلُّوها في تغذية الأخبار بالقصص المُحرِجة قُبيل الانتخابات، وفي اللعب على وتر العنصرية والتمييز على أساس الجنس والاستياء الحزبي.
أثارت الحملة -التي تقول الاستخبارات المحلية إنها مستمرة- أسئلة على الشكل التالي: هل تسبَّبت حملات التأثير في إبراز ما كان موجوداً بالفعل، أم جعل تلك السلوكيات أسوأ وقادت البعض للتصرُّف (والتصويت) بطُرُقٍ لم يكُن ليُقدِم الأميركيون عليها؟
انشغل الأميركيون، في وقتنا الحالي، بقدرة روسيا على التلاعب بهم.
أقوى التأثيرات هي الفورية والاجتماعية، لذا يسعى أصحاب السُّلطة لفرض تأثيرهم بالتظاهر بأنهم أشخاصٌ عاديون/Istock
الأميركيون يتخوفون من «تأثير» روسيا، لكنها ليست الوحيدة
إذ أظهر استطلاع رأي أُجرِيَ العام الماضي (2017)، أن 63% من الديمقراطيين و38% من الجمهوريين يرون في «نفوذ روسيا وتأثيرها» خطراً حقيقياً على الولايات المتحدة.
لكن روسيا ليست سوى تأثيرٍ واحدٍ فقط وسط نظامٍ بيئيٍّ مُتكاملٍ من الضغوط العصرية، مثل: جماعات الضغط السياسيّ والمخدرات وفيسبوك والعملاء السريين والمال المُظلِم والأجندات الخارجية والمخادعين والعملاء المزدوجين والأخبار الكاذبة والرِّشا والتهديدات.
وفي خِضَم كل تلك التأثيرات المتناقضة، يبدو عالم السياسة غامضاً، كأنه كتلةٌ فوضويةٌ من السلطات المتداخلة.
وبينما تظن أنك حر الاختيار، تدور حرب على عقلك في الخفاء
«هناك حربٌ على عقلك!»، كما يقول شعار موقع Infowars المعروف بتبنِّيه نظرية المؤامرة. فكيف نعرف إذن حقيقة ما يدور في خلدنا؟
كلمة «تأثير» في الإنكليزية هي «Influence»، ويعود أصلها إلى الفعل اللاتيني Influo (أي: تدفق إلى الداخل)، وفق ما نشرت مجلة The New York Times الأميركية في تقرير للناقدة أناليسا كوين.
اشتُقَّت منها كلماتٌ أخرى مثل Influx، أي تدفُّق وInfluenza التي تعني أنفلونزا وInfluo، وهي «منصة تسويق التأثير الاجتماعي» البلجيكية.
وفي البداية، استُخدِمَت الكلمة في الحديث عن الماء، ولكن بحلول القرن الثالث الميلادي على الأقل، استخدم المسيحيون كلمة Influo لوصف تدفُّق الروح القدس إلى أرواح المؤمنين.
وفي العصور الوسطى، اشتُقَّ من الكلمة اسم Influentia الذي يعني «تأثير».
أصل الكلمة يعني التأثر من أعلى إلى أسفل
وكان استخدامها فلكياً في الأساس: يُعتقَد أن الكواكب تَصُبُّ تأثيراتها على الأرض، لتنشر أشياء مثل الإحسان (المشتري) والصراع (المريخ) والجنون (القمر-ومن ثم الخبل).
وتساءل الشاعر التيودوري، إدموند سبنسر، عام 1950: «أيُّ نجمةٍ شريرة/عثرت عليها في طريقك، وصبَّت تأثيرها السيئ عليك».
وإلى جانب هذا الاعتقاد، يظهر نوعٌ من القلق بشأن تداعياته الروحانية.
تقبَّل عالِم اللاهوت المسيحي، توما الأكويني، فكرة تأثير الكواكب والنجوم على أجسادنا المادية، لكنه رفض فكرة سيطرتها على عقولنا، ما يعني من ثم نهاية الإرادة الحرة.
وجمع كليف ستيبلز لويس مواقف العصور الوسطى تجاه الأمر في كتابه الصادر عام 1964 «The Discarded Image».
إذ كتب فيه أن الاعتقاد السائد هو أن التأثير «لا يُولِّد ضرورةً، بل مُجرَّد ميلٍ إلى التصرف بطريقةٍ أو بأخرى».
واعتبر أنه يُمكِن مقاومة تلك النزعة: «الرجل الحكيم هو من يُسيطر على النجوم. لكنها لا تلقى مُقاومةً في معظم الأحيان؛ نظراً إلى أن معظم الرجال ليسوا حكماء».
ثم أصبحت علاقة بين حكومات ومعلنين وجمهور يستقبل
وبمرور الوقت، مع نبذ علم التنجيم بوصفه علماً تافهاً، أصبح التأثير ناتجاً عن أفعال الحكومات والمُعلِنين وليس الأجرام السماوية.
إذ أصبحت الدعاية أسهل مع ظهور الصحافة المكتوبة؛ تحوَّل التأثير إلى صناعةٍ حقيقيةٍ مع تصاعد وتيرة الدعاية السلوكية.
وتذمَّر لويس من أن استخدام القرن العشرين كلمة «التأثير» كان به نوعٌ من «الخرف المُضِرّ» بالمقارنة مع معناها الأصلي.
لكن المفهوم التنجيمي للتأثير، بوصفه قوةً شريرةً وغامضةً ونائية -وهي القوة التي تُغرينا بالتصرُّف بطريقةٍ تتعارض مع شخصياتنا أو حكمتنا الأفضل- ما زال قائماً في الطريقة التي يتحدث بها الناس عن المدارات المُظلمة للسلطة والثروة العالميتين.
من هم المؤثرون الذين أوصلوا ترامب للرئاسة؟
وكما كان يُعتقد في الماضي أن الملوك يصعدون إلى عروشهم ويسقطون منها بقوة السموات، نتساءل اليوم عن سمسار التأثير الذي ربما يكون مسؤولاً عن انتخاب رئيس: هل هم الروس أم تُجَّار الأقمشة؟
طيلة معظم فترات القرن العشرين، كان الاتحاد السوفييتي بمثابة الكوكب المظلم لأميركا.
وقال مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ألين دولِس، في خطابه عام 1953، إن العقل السوفييتي «عبارةٌ عن فونوغراف يُشغِّل قُرصاً مُدمجاً على عمود دورانه بواسطة عبقريٍ خارجيٍّ لا يُمكنه السيطرة عليه».
وأضاف أن غسل الدماغ السوفييتي يحدث عن طريق التلقين أو نوعٍ من «مصل الكذب»، لكنه يظل «بغيضاً» بغض النظر عن ماهيته.
From macro, to micro, to nano #influencers, it's important to understand why #influencer costs are unlikely to vary in correlation with follower size. #TheSpin #InfluencerMarketing #Macroinfluencers #Microinfluencers #NanoInfluencers pic.twitter.com/mIoM1ifwLb
— Carusele (@Carusele) December 4, 2018
الإنترنت سمح للجميع بالتأثير بطريقة خفية
من الجدير ذكره أن دولِس أطلق، في العام نفسه، برنامجاً لإجراء تجارب سريةٍ للتحكُّم في العقول على عددٍ من الأميركيين والكنديين الغافلين!
وتابع أن السوفييت لم يمتلكوا الموارد البشرية اللازمة لتطبيق الأمر على نطاقٍ أوسع.
لكن الإنترنت، في عصرنا هذا، يسمح لأي أحدٍ بالتأثير على العقول في أي مكانٍ من العالم.
ويُمكن أن يكون التأثير ظاهراً أو خَفِياً ومُموَّلاً من أيِّ سلطة، ليتسلَّل إلى داخلك بطرقٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصى.
وفُهِمَ التأثير في الماضي على أنه ظاهرةٌ تأتي من الأعلى إلى الأسفل، حيث تُسيطر الحكومات والمُعلِنون والمُتبرِّعون وغيرهم من الشخصيات النافذة على الجماهير.
يتظاهر من في السلطة بأنهم ناس عاديون ويخترقون الحشود
لكننا نُدرِك الآن أن أقوى أنواع التأثيرات هي التأثيرات الفورية والاجتماعية، وليس التأثيرات البعيدة نسبياً، لذا يسعى أصحاب السُّلطة لفرض تأثيرهم بالتظاهر بأنهم أشخاصٌ عاديون.
إذ يعمل المُسوِّقون، مثلاً، بجهدٍ أكبر لإخفاء الفوارق بين الإعلانات والحياة الواقعية.
وشهد العِقد الأخير ظهور «المُؤثِّرين» المُحترفين: أشخاصٌ تُدفع لهم الأموال ليستخدموا جاذبيتهم الشخصية في الترويج لأجنداتٍ بعينها على الإنترنت.
السياسة كالتجارة.. لكن المنتج المعروض للبيع أفكار
وعوضاً عن التأثير من الأعلى إلى الأسفل الذي تُحدثه الإعلانات التجارية واللوحات الإعلانية، تأتي هذه الإعلانات مُتَضمَّنَةً وينشرها شخصٌ يُشبهك، على مستوى التطلعات.
وتستخدم الشركات التي تدفع الأموال للمراهقين من أجل الدعاية لشاي التخسيس على موقع إنستغرام، التكتيكات نفسها التي استخدمتها الحكومة الصينية حين وظَّفت مُعلِّقين لنشر مئات الملايين من الرسائل المُؤيدة للحزب الشيوعي على الإنترنت.
وما زالت سلطة تلك الحملات تأتي من الأعلى إلى الأسفل، بالطبع، إذ تتظاهر القوى التي تقف وراءها بالحديث إلى الجماهير.
الشبكات الاجتماعية تضخ المعلومات للدورة الدموية
وصلت المعلومات المُضلِّلة الروسية في السباق الانتخابي الأميركي الأخير إلى 126 مليون شخص على فيسبوك، لكن هل تأثَّر بها أيٌّ منهم فعلاً؟/Istock
وهذا العمل من صنيعة الشبكات الاجتماعية، حيث يُمكن توجيه الرسائل بهدوءٍ وسريةٍ إلى مواضيع بعينها.
حين أرادت شركة Cambridge Analytica -وهي شركة الاستشارات السياسية المُرتبطة بستيف ك. بانون والتي يمولها مُتبرِّعون مُحافظون- إحداث أكبر تأثيرٍ ممكنٍ على انتخابات عام 2016، استغلَّت بيانات الشبكات الاجتماعية لاستهداف المستخدمين بدقةٍ تستعصي على أعتى محاربي العقول في فترة الحرب الباردة.
وأوضح مارك تورنبول، المدير التنفيذي السابق لـCambridge Analytica، خلال تسجيلٍ صوتيٍّ سُجِّل خِفيةً: «لا نقوم إلا بضخ المعلومات إلى الدورة الدموية للإنترنت ثم نُشاهدها وهي تنمو، ونمنحها دفعةً بسيطةً من وقتٍ لآخر لنُشاهدها وهي تتشكَّل.
وبهذه الطريقة تتسلَّل تلك الأشياء إلى مجتمع الإنترنت ثم تتوسَّع، دون أي إشارةٍ تَدُلُّ على مصدرها، ما يجعلها غير مُسندةٍ ويصعُب تعقُّبها.
لكن الأمر المُبهَم هو مدى فاعلية أيٍّ من تلك الحملات على أرض الواقع.
إذ وصلت المعلومات المُضلِّلة الروسية إلى 126 مليون شخص على فيسبوك، لكن هل تأثَّر بها أيٌّ منهم فعلاً؟
ويستخدم كتابٌ نُشر مؤخراً -Network Propaganda الذي كتبه يوشاي بينكلر وروبرت فارس وهال روبرتس- البيانات ليُظهِر بطريقةٍ مُقنِعةٍ، أن أغلب المعلومات المُضلِّلة التي جرى تداولها في أثناء حملة 2016 نُشرَت في الواقع بواسطة وسائل الإعلام الأميركية التقليدية ذات التوجُّه اليميني، مثل موقع Breitbart وشبكة Fox News.
يتسرَّب التأثير ليُسكِر ويُلهِم
لماذا يجب أن تكون روسيا أكثر شُؤماً من شان هانيتي (إعلامي ومعلق سياسي أميركي محافظ)؟ ربما يتعلَّق الأمر بالوضوح الكامل للخُبراء،.
إذ إن هانيتي -على سبيل المثال- صريحٌ للغاية بشأن تحيُّزاته، لدرجة أنه شارك في إحدى فعاليات حملة ترمب مؤخراً.
لكن التأثير الخفي هو الأكثر إثارة للقلق، حتى حينما يكون مداه الحقيقي محل تساؤل.
ومُقارنة تورنبول مُعبِّرةٌ إلى حدٍّ كبير: يتسرَّب التأثير، كما توحي أصول الكلمة السائلة، ويتشبَّع ليُسكِر ويُلهِم. فجهاز التحكُّم عن بعد يمنحنا وهْم الاختيار على الأقل.
وفي خضم كل هذه الحروب المخفية.. هل توجد حقاً إرادة حرة؟
نحن نفضل النظر إلى شخصياتنا على أنها ثابتة: فلدينا معتقداتنا وأخلاقياتنا وأدياننا واحتفالاتنا وولاياتنا وبلداننا وأصدقاؤنا وأعداؤنا.
نحن على طبيعتنا الحتمية، طبيعتنا التي لا يُمكننا التهرُّب منها. لذا علينا أن نكون قادرين على مقاومة هذا النوع من التلاعب.
لكن تسلسلاً ثابتاً من دراسات العلوم الاجتماعية يُشير إلى العكس، ويُظهِر مرةً تلو الأخرى كم تُؤثِّر الضغوط الاجتماعية بسهولةٍ على الأشياء التي نقولها ونؤمن بها ونفعلها ونأكلها ونفكر فيها.
ويعود قلقنا بشأن التأثير إلى المخاوف نفسها التي انتابت توما الأكويني في وقتٍ ما، وهي الشكوك نفسها التي تُعانيها عائلات مُدمِني الكحول أو أعضاء الطوائف الدينية.
وفي وجه التأثيرات القوية، كيف يمكنك أن تعثر على بريق طبيعتك الحقيقية الأصلية وإرادتك الحرة وشخصيتك، وحتى روحك، لتتمسَّك بها؟
وهُنا تكمُن المخاوف من الحقيقة العارية التي يفترضها التأثير: وهي أنه لا يُمكنك فعل ذلك، أو أن تلك الأشياء لم يكن لها وجودٌ من الأساس.
The post يتنكرون كأنهم أشخاص عاديون ليبيعوا أفكارهم في قالب بريء.. «المؤثرون» محاربو عقولٍ عتاة فاحذرهم appeared first on عربي بوست — ArabicPost.net.