كيف تأتينا الفانيليا؟ البشر يلقحونها كالنحل، ويموتون من أجلها بهذا البلد الإفريقي الذي يزرع 80% من إنتاجها!

0

حتى مع وجود ضوء القمر كان من الصعب اكتشاف هذا السلك الممتد عبر الشجيرات، وهذا هو الهدف منه، فهو فخ لحماية حبوب الفانيليا الثمينة.

اللص الذي سيسقط ضحية لهذا الفخ لن تكون مشكلته الوحيدة هي هذا الفخ، بل قد يواجه مصيراً مميتاً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأميركية عن تجارة الفانيليا الخطيرة في مدغشقر الدولة الإفريقية الفقيرة.

وقال مزارع الفانيليا الذي نصب الفخ، خافضاً صوته ومضيئاً شعاع كشَّافه على حفرةٍ: «من هنا يأتي اللصوص».

في كلِّ ليلةٍ، يدور المزارع نينوت أوكلين (33 عاماً) في أرضه الواقعة على سفح بركانٍ في مدغشقر، عاري القدمين، حاملاً بندقيةً يدويةً فوق كتفه.

وإذا سمع أوكلين صوت أحدٍ يتعثَّر، عرف أن هناك لصاً آخر يحاول سرقة محصوله الوفير من الفانيليا الناضجة.

لماذا أصبحت واحدة من أغلى النكهات في العالم؟

تعد الفانيليا هي إحدى أغلى النكهات، وتُنتِج الجبال المُعشَّبة في شمال شرق مدغشقر قرابة 80 بالمئة من الفانيليا في العالم.

وقد ارتفع سعرها من 50 دولاراً للكيلوغرام في 2013، إلى 600 دولار للكيلوغرام العام الماضي 2017، أي باتت أغلى من الفضة.

ويُعزى ارتفاع السعر جزئياً إلى تزايد الطلب في الغرب على هذه النكهة.

إذ تُستَعمَل الفانيليا في كل شيء، بدءاً من المثلجات، ومروراً بالكحول، ووصولاً إلى مستحضرات التجميل.

وقد نقص العرض كثيراً بفعل إعصارٍ وقع في العام الماضي 2017 اجتاح المحاصيل على جزيرة مدغشقر، الواقعة قبالة ساحل جنوب شرق إفريقيا.

حتى أنها أدت إلى إنشاء مايعرف بـ»قصور الفانيليا»

وفي وجود التربة والمناخ المثاليِّ لزراعة الفانيليا، يحظى إقليم سافا في مدغشقر بانتعاشٍ اقتصادي.

ونتج عن ذلك ظهور ما تُسَمَّى بقصور الفانيليا الشامخة فوق الأكواخ العشبية التقليدية المسقوفة بالقشِّ.

وحتى أبسط البيوت تتباهى بالألواح الشمسية وكشَّافات الـLED التي تضيء القرى التي كانت مظلمةً في ما مضى.

كما تجوب السيارات الرياضية متعددة الأغراض شوارع سامبافا، عاصمة الفانيليا.

لكن الأمر ليس مثالياً كما يبدو

إلا أن تلك الأرباح غير كان لها ثمنٌ.

فسعر الفانيليا المرتفع، بالإضافة إلى الفقر والفساد المُتَفَشِّيَين في دولة مدغشقر الضعيفة، كل هذه العوامل جعلت المحصول هدفاً مُفَضَّلاً لدى الشبكات الإجرامية العنيفة.

فتجارة الفانيليا في مدغشقر هي قصة مكافآت، وكذلك أخطار تواجه العاملين بالمهنة طوال الطريق الذي تقطعه الفانيليا من الحقول إلى الميناء، ليُصَدَّر إلى سائر العالم.

الفلاح: يقوم بوظيفة النحل لأن الأزهار تتفتح لفترة قصيرة جداً

ما زالت معظم الفانيليا تأتي من المزارع الصغيرة، كمزرعة أوكلين، حيثُ العمل يقصم الظهر.

تحتاج نباتات الفانيليا إلى الرعاية من ثلاثة إلى أربعة أعوامٍ قبل أن تؤتي ثمارها.

وتتفتَّح الأزهار مرةً واحدةً في السنة لمدة 24 ساعةً، ولذا يجب تلقيحها على الفور.

الفلاحون يقومون بتلقيح زهور الفانيليا بدلاً من النحل/ISTOCK

وفي الأصل، كان يقوم بهذا العمل نحل «الميليبونا» في المكسيك، حيثُ كانت حضارة الآزتك صاحبة الأسبقية في استخدام نكهة الفانيليا.

لكن لم يكن لتلك الحشرات وجودٌ في مدغشقر. لذلك في كل موسم، يجري تلقيح 40 مليون نبتة فانيليا يدوياً باستخدام إبرةٍ خشبيةٍ بحجم خلَّة الأسنان.

وعند تلقيحها، تنتج الزهرة حبوباً خضراء في غضون شهرين وهي التي تحوي الفانيليا.

وعند اقتطافها، تبدأ الحبوب في التخمر، لذلك على المزارعين العثور على مشترين بسرعةٍ.

إلا أنه المشكلة ليست في العمل الشاق فهناك ما هو أسوأ

لكنَّ العمل الشاقَّ لا يضايق أوكلين.

إذ قال: «المشكلة هي الأمن»، موضحاً أنَّ اللصوص يهاجمون المزارعين ويقتلونهم لأجل ثمار الفانيليا.

لا يتجول أوكلين فقط في أرضه المتألِّفة من 3000 شجرة فانيليا لحراستها، بل يستأجر ثلاثة رجالٍ ليقفوا حرَّاساً في كل ليلةٍ أثناء الأشهر الأربعة السابقة لحصاد الصيف.

ويتسلَّح الرجال بهراواتٍ ورماح صيد سمكٍ ذات شوكتين، فضلاً عن بندقية أوكلين.

وفي كل ليلةٍ، تمرُّ بهم جماعةٌ أمنية تضمُّ بين صفوفها ستة رجالٍ مسلَّحين بالهراوات والمناجل.

وقال أوكلين: «تجب حراسة كل مزرعة فانيليا».

وعدالة الغوغاء تسود عندما يقبضون على لص أو مشتبه به

وفي ظلِّ انعدام ثقة الشعب في قوات الشرطة ونظام العدالة الفاسد، غالباً ما تنتصر عدالة الغوغاء عندما يُقبَضُ على لصٍّ مشتبه به.

في أبريل/نيسان الماضي 2018، أسرت ميليشيا محلية لصاً يحمل ما يزيد عن كيلوغرام من الفانيليا المقطوفة حديثاً. فانهالوا عليه بالعصيِّ حتى فقد وعيه، ثم طعنوه بالمناجل حتى الموت، وفقاً للسكان المحليين.

وكانت هذه مجرَّد واحدةٍ من العشرات من «جرائم الفانيليا» على مدار الموسمين الماضيين.

لكن هناك اعتقالات كذلك.

ففي أحد أيام هذا العام، قال فولوزارا سكينة محمدي، مدير السجن في أنتالاها، أحد الموانئ الرئيسية في إقليم سافا: «أتانا 33 سجيناً. معظمهم مُدانون بسرقة الفانيليا».

وعلى الرغم من المخاطر، شهد أوكلين ربحاً بسيطاً من تجارة الفانيليا.

وهو الآن يملك هاتفاً ذكياً وحساباً على فيسبوك، ويحتوي بيته ذو الغرفة الواحدة على تلفازٍ وطبق قمرٍ صناعيٍّ يعمل بالطاقة الشمسية.

الوسيط: الحبوب تنحاز له، ولكن عليه دفع رشوة

في سامبافا، تحت ظلِّ شجرة مانجو، كان الوسيط باسكال راسافينداكوتو (44 عاماً) ينتظر برفقة عشراتٍ من أقرانه وصول البائعين البسطاء من الريف ومعهم أكياسٌ بلاستيكيةٌ صغيرةٌ ملآى بحبوب الفانيليا.

ثم يبدأ فحص الحبوب وملمسها وحجمها (كلما كانت أكبر كانت أفضل) والتفاوض على سعرها.

أحياناً، يخوض راسافينداكوتو الريف بسيارةٍ متهالكة بحثاً عن الصفقات.

وقد يُضطَّر إلى التوقف أثناء رحلة عودته في أحد الكمائن المنتشرة، حيث تتوقع الشرطة رشوةً لأجل المرور.

وقال مبتسماً: «لم أواجه مشاكل قط مع رجال الشرطة. فأنا أعمل معهم. عليَّ أن أعطيهم نصيبهم ليظلُّوا أصدقائي».

وبسبب سرعة تعفُّن الحبوب، لا يملك المزارعين موقف قوة في المفاوضات.

وغالباً ما يحصلون على ربحٍ أقل بكثيرٍ من قيمة حبوبهم عمَّا يتقاضاه الوسطاء من أمثال راسافينداكوتو عند بيعها إلى منشأة تعتيق معينة.

«مع الفانيليا، الحياة لذيذة».. إنهم يخلطون الحبوب الجيدة بالرديئة

وقال دومينيك روكوتوسون (55 عاماً): «نعاني من الفقر منذ وقتٍ طويلٍ، وعلى الرغم من ارتفاع السعر، ما زال معظم المزارعين فقراء لأنَّهم يبيعون محاصيلهم فوراً، أو قبل الأوان».

ودومينيك هو مزارعٌ قديمٌ في سامبافا يمثِّل 100 عائلةٍ من زارعي الفانيليا.

وهناك حكاياتٌ كثيرة عن احتيال الوسطاء على الزُرَّاع. وهم متَّهمون أيضاً على نطاقٍ واسعٍ بإفساد الجودة عن طريق الخلط بين الفانيليا الصالحة والطالحة.

وقال روكوتوسون: «الوسيط هو منبع الأعمال الفاسدة».

أما راسافينداكوتو فيتجاهل هذه الأقاويل.

إذ تملك أسرته الآن بيتاً جديداً به تلفازٌ مسطَّح، ويتردَّدُ هو على الشاطئ لأجل حفلات الشواء مع أصدقائه.

وقال إنَّ تجارة الفانيليا عملٌ شاقّ، فلمَ لا نستمتع بالأوقات الطيبة قبل أن تزول؟

وأضاف: «مع الفانيليا، الحياة حلوة. وهي تنقضي بسرعة ويمكننا التمتع بها».

المُصَدِّرون: «إنَّها كتجار الألماس والكوكايين».. حتى أنهم يفتشون العاملين لديهم

وقف ميشيل لومون في شموخٍ أمام مستودعه في أنتالاها، مشاهداً جيشاً صغيراً من النساء وهنَّ يُعَتِّقنَ أطناناً من الفانيليا، ويفرزنها، ويعبِّئنها في صناديق لأجل تصديرها.

ومع أنه ثريٌّ بالمعايير المحلية، فأشدُّ مخاوف لومون هي نفسها لدى أوكلين: السرقة.

إذ قال لومون: «لا يوجد تأمينٌ على السلع ولا على الناس. نظام العدالة فاسدٌ. وهناك حصانةٌ تامَّةٌ.

ويضيف «إنَّها كالكوكايين في أميركا اللاتينية، حيث يقبضون على صغار المجرمين، لكن لا يمسُّون الزعماء».

سيدات يقمن بإعداد الفانيليا/ISTOCK

وقال لومون إنَّ مئات الكليوغرامات من الفانيليا قد سُرِقت من مستودعاته على مرِّ السنين. ولذا يُفَتَّش جميع موظفيه أثناء مغادرتهم العمل.

وتابع: «الحبوب صغيرةٌ وقيمةٌ جداً ويسهل إخفاؤها. الأمر شبيهٌ بالألماس في جنوب إفريقيا».

وينتج لومون فانيليا «البوربون» بأعلى جودةٍ، باستخدام طريقة تعتيق تستغرق شهوراً.

وقال عن عمله: «تحتاج الفانيليا إلى الصبر».

وبسبب بعض المشكلات، قد يهبط السعر، لكنَّ قيمة الفانيليا من المتوقع أن تظلَّ فوق المستويات التاريخية.

والأزمة في رأيه لم تعد الفقر

وقال لومون أنَّه كان متخوفاً من تأثير الانتعاش الاقتصادي على الثقافة المحلية، في ظلِّ بذل الناس قصارى جهدهم لتكوين الثروات بسرعة.

وأردف قائلاً: «الآن في مدغشقر، ليست المشكلة مشكلة فقر الجوع، بل الفقر الاجتماعي».

الأزمة هي التنافس مع الآخرين لكسب الأموال سريعاً. هذا ليس جيداً. لا يمكن أن نستمرَّ على هذا المنوال»، حسب قوله.

The post كيف تأتينا الفانيليا؟ البشر يلقحونها كالنحل، ويموتون من أجلها بهذا البلد الإفريقي الذي يزرع 80% من إنتاجها! appeared first on عربي بوست — ArabicPost.net.

قد يعجبك ايضا

اترك رد