سُني وشيعي، إسلامي ومسيحي! كيف نحلّ أزمة تدريس الدين في الدول العربية؟
عندما يقتصر تدريس الدين في الدول العربية مثلاً، من وجهة نظر سُنّية فقط أو شيعية، مع الاستبعاد التام لوجهات نظر شرائح الشعب الأخرى، بل اعتبارها ثقافات كافرة غريبة عن الهوية الوطنية، كما يحدث مع أقباط مصر على سبيل المثال لا الحصر، سيصبح هذا التدريس نوعاً من فرض عقائد وآراء وتصورات للدين على حساب تصوّرات أخرى، فضلاً عن أنه يصبح تدريس دين معيّن وإهمال الأديان الأخرى لا يختلف عن جعل تدريس الدين كالبرمجة، واستخدام التدريس وسيلة تعبئة أيديولوجية تصنع من الطالب في المستقبل أداة مسلوبة الإرادة، ستستخدمها هذه الأيديولوجية من أجل مصالحها، وخاصة إن لم يتعلّم الطالب أسلوب المناقشة والجدل ليكون عبارة عن جهاز استقبال.
ليس فقط معالجة إشكالية الإرهاب التي دفعتني إلى إنجاز هذا البحث، إن منهج تدريس الوقائع الدينية الإسلامية عامل مهم وحاسم حتى في العالم الغربي، إذ طرق تعليم هذه الوقائع هي التي تحدد إن كان المسلمون في أوروبا أو أميركا على استعداد للاندماج مع المجتمعات التي يعيشون فيها، فمنذ عقدين من الزمن نجد أن ما يفعله المسلمون بدينهم شبيه بما فعله سابقاً اليهود، بعد السبي على يد نبوخذ نصر البابلي، وبسبب ذلك الاضطهاد تحولّت اليهودية إلى هوية، وليس مجرد دين هدفه توثيق الصلة مع الله.
يعني حدث انحراف في علاقة الدين بالفرد، والمسلم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصبح يرى أيضاً دينه كهوية عصبية تعادي الآخر، وتثير المشاكل أينما حلّ وارتحل، وهذا ما أعاق اندماجه مع مجتمعه غير الإسلامي.
أرى أن الحل الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ «السماح لمجموعة معيّنة بعدم حضورها للدروس الدينية المقدّمة» ليس بحلّ على الإطلاق، فلا فرق بينه وبين الدعوة إلى الفصل بين التلاميذ لمجرد الاختلاف الديني والطائفي، لأنه سيغذّي الشعور التمييزي بين التلاميذ لمجرد الاختلاف في القناعات الدينية والطائفية، وهو ظلم بحدِّ ذاته، فلماذا يحق للمسلم دعوة المسيحي إلى عدم حضوره لدروسه الدينية، ولا يحق للمسيحي أن يفعل نفس الشيء مع المسلم؟
فإذا كان الجواب هو أن بلداننا ذات أغلبية مسلمة، أو المعيار هو الأغلبية العددية، فلماذا تطالب الأقليات الإسلامية في الغرب بإدراج تدريس مبادئ الإسلام واللغة العربية في المناهج التعليمية الغربية؟ ودون أن ننسى أن الدعوات إلى عدم حضور دروس الدين الإسلامي هي تشجيع غير مباشر للتسرّب المدرسي واللامبالاة، ويختلق الطالب أعذاراً مختلفة لعدم حضوره لدروس الفلسفة والتاريخ، حتى إن الدول الغربية كبلجيكا أصبحت لا تدعم مثل هذه الحلول، وهي أكثر دولة لاقت صعوبات في حلِّ مشكلة التعارض بين علمانية الدولة وبين طريقة تعليم الوقائع الدينية.
أنا أعتقد أن أمثال هذه الحلول تُبيِّن أن هناك خللاً كبيراً في فهم دور المؤسسة التعليمية ودور المناهج الدينية في مجتمعاتنا، فهل دور المناهج الدينية هو الدعوة إلى التسامح والتعايش والاحترام وكافة القيم النبيلة التي تبني مجتمعاً حرّاً وصحّياً؟ فإذا كان كذلك، فلماذا إذاً ندعو المختلف دينياً إلى عدم حضور الدروس الدينية التي تخالف قناعاته إن كان الهدف هو ترسيخ قيم إنسانية تشترك فيها جميع الديانات؟ وإذا لم يكن هذا هو دور المناهج الدينية فماذا تفعل إذن هذه المناهج في المؤسسات التعليمية المدنية، التي هي نتاج علماني خالص، التي وجدت لغرض التعليم الذي هو حق كل البشر من دون تمييز.
لا يمنع أبداً الفصل بين الدين والدولة، من أن يكون الدين حاضراً في المدرسة، وبما أن مفهوم الدولة يعني مؤسسات لا تتبنى أي ديانة ولا أي مذهب، يجب إيجاد صيغ لتدريس الدين في مجتمعاتنا، بديلة عن المناهج الحالية التي تهدم مفهوم الدولة نفسه، وتهدم قيم المواطنة والتعدّدية، والتي تحرّض على الطائفية بين أبناء الوطن الواحد، والتي تسلب استقلالية الإنسان العربي وحقّه في الاختيار.
بل أصبحت طريقة تدريس الدين عندنا سبباً في صناعة أفراد مستعدّين لمعاداة النظريات العلمية التي يُعترف بها اعترافاً واضحاً في الأوساط العلمية.
تعليم الوقائع الدينية يجب أن يستند إلى خطوطٍ عريضة واضحة لا تقبل التأويل، ومنها الحياد التام والصارم للدولة والسلطة العمومية، واستقلال مؤسسات الدولة بالنظر إلى السلطات الدينية، واستقلال الأديان بالنظر إلى الدولة، والاعتراف بالحرية الدينية، والحرية اللادينية، بالإضافة إلى احترام استقلالية الوعي الفردي، سواء كان الفرد رجلاً أو امرأةً بالنظر إلى السلطات الدينية والفلسفية، وبما أن غاية التدريس هي صنع فرد واع ونقدي، يجب فتح المجال لممارسة النقد المطبّق على جميع الأديان، والبحث الحر في أفكارها، وإفساح المجال أمام المناظرات بين كافة المتخالفين.
هذا يعني الخطوة الأولى لإصلاح مناهج تدريس الدين، بالخروج من الاهتمام شبه المقصور على التبشير التقليدي أو المهمة الدعوية إلى الانفتاح الواضح على مجموع التجربة الدينية الإنسانية والحياد، تجاه الأفكار الدينية المختلفة، وحتى على الرؤى غير الدينية، يجب أن يصبح التعليم الديني يفهم تبعاً للمهمة التربوية للمدرسة، أكثر مما يفهم تبعاً للمهمة الدعوية للمساجد، أي يجب أن تكون المناهج متوافقة مع المهمة الأصلية للمدرسة، بينما التبشير يجب تركه للمؤسسة الدينية؛ لأن التبشير بالإسلام السنّي أو الشيعي أو أي دين كان بالعموم هو ليس من مهمة المدرسة ولا الدولة.
بريطانيا هي أحسن مثال لما اقترحته، فعلى الرغم من ضغوطات اليمين الديني هناك، لكن شهدنا هناك تطوّراً لتربية متعددة الأديان، مع الاعتراف الرسمي في البرامج الوطنية بستة تقاليد دينية على الأقل، وهي المسيحية، والإسلام، والهندوسية، واليهودية، والبوذية، والسيخية.
هناك نجاح في إقامة التعليم الديني على التعددية الدينية الفعلية، دون إغفال المكون الديني والثقافي للهوية الوطنية؛ لأن الهدف كان المساهمة في تحسين التواصل بين الجماعات التي تشكّل المجتمع التعددي والسماح بوجود فهم أفضل للدين، والسماح للتلاميذ بأن يشكّلوا بأنفسهم رؤيتهم الخاصة للعالم، بعد تعرُّفهم على أديان العالم على اختلافها. وهكذا خلقت بريطانيا مجتمعاً متعدداً، ساند مسلماً لكي يصل إلى حكم أحد أهم المدن في العالم وهي «لندن»، من دون النظر إلى خلفيته الدينية.
وحتى أوضّح أكثر النموذج البريطاني، تمت صياغة الأسس التي تقوم عليها المناهج الدينية على خمسة مبادئ، ذكرت في كتاب «الحياة معاً»، وهذا الكتاب صِيغ للمعلم البريطاني، أي كدليل للمعلِّم، وتلك الأسس هي:
– الخاصية الوصفية: أي الوصف والتلاقي الحي مع المواقف الدينية وغير الدينية، من حيث هي وقائع تاريخية وثقافية.
– الخاصية الموضوعية: أي إنتاج فهم، وليس التشجيع على اتخاذ شكل من أشكال الالتزام.
– الخاصية النقدية: التوعية بوجود عدد من وجهات النظر.
– الخاصية التجريبية: ربط تدريس الأديان بالاهتمامات اليومية للتلاميذ.
– الخاصية الأخلاقية: القائمة على الاحترام، إذ تدريس موقف ديني أو غير ديني لا يجب أن يربك مَن يوجد في القسم من أتباع.
بطبيعة الحال ليس النموذج البريطاني الوحيد الذي يمكن الاستفادة منه، هناك النموذج الدنماركي المثير للاهتمام أيضاً، الدنمارك بلد مسيحي لوثري بنسبة 90%، ومع ذلك لو اطَّلعنا على مناهج تدريس الدين هناك، نجد أنه يخصص للأديان البدائية من 10 إلى 15 درساً، وللدين المسيحي ودينين غير مسيحيين 25 درساً، و25 درساً للتصورات الدينية الأخرى واللادينية، هذا يسمح للطالب الدنماركي بتشكيل نظرة شاملة عن كل أديان العالم، وفرص أكبر للتعرف على الآخر والتعايش معه مهما كان دينه.
وكما قلت، هناك نماذج أخرى يمكن الاستفادة منها، كالنموذج اليوناني مثلاً، الذي رخَّص عام 2002 لمعلّمين غير أرثوذوكسيين (بروتستانتيين أو كاثوليك) لإعطاء دروس دينية في المسيحية الأرثوذوكسية، التي تشكِّل المذهب الغالب في اليونان.
أما مسألة إبعاد الدين تماماً عن المدرسة، وإحالة موضوع تدريسه للمساجد، فهذه معالجة سطحية وخطيرة في نفس الوقت؛ لأن الدين يشكِّل أحد أطراف وعي الإنسان، وهو مكوّن أساسي لهوية الشعوب العربية، ثم إن استقلال المساجد بموضوع تدريس الدين سيتسبَّب في تأزيم المشكلة على طريقة المثل «جاء يكحّلها عماها»، لأننا نعلم أن المعابد الدينية عندنا هي من أكبر مراكز تجمّع الدوغما والتعصّب على أي حال، وستصبح عملية مراقبة ما يتم تدريسه هناك من تعاليم شبه مستحيلة.
إن الدين يؤثر في كل دوائر النشاطات والتعبيرات، والتاريخ بيَّن أن الدين شارك حتى في صنع الحداثة الغربية، فلماذا لا نشارك في صنع حداثتنا نحن أيضاً، ومن موروثنا الزاخر بالأنساق الرمزية والعقلانية.
وفي الختام، أكرِّر أنه ليس فقط من أجل مكافحة الإرهاب أو لمعالجة مشكلة الاندماج في المجتمعات الغربية يجب إعادة النظر في طرق تعليم الوقائع الدينية الإسلامية، بل الهدف أعم وأشمل، وهو احترام حرية ووعي التلاميذ وعائلاتهم، واحترام لحرية الفكر والتربية على الفحص الحر، وتنمية الحس النقدي، واليوم نحن في عالم معاصر تثار فيه المئات من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي تحتاج إلى دراسة عملية محايدة لا يكون الدين فيها مصدراً للاضطراب والتقسيم والتشتّت.
The post سُني وشيعي، إسلامي ومسيحي! كيف نحلّ أزمة تدريس الدين في الدول العربية؟ appeared first on عربي بوست — ArabicPost.net.