تعرف على أول صحفي سافر من أجل الحقيقة.. والتقى بأدولف هيتلر
في أزمنة الحروب وتحت سطوة الدكتاتوريات، يلمع نجم الصحافة. هي الرقعة التي يلعب فيها أبناء المهنة الحقيقيين.. مجازر وحقائق وانتهاكات سيسعون لاكتشافها.. إنها أوكرانيا السوفياتية، تحت سطوة الحزب الواحد وفي زمن الحكم القمعي لجوزيف ستالين.
هنا يحلّ السيد غاريث جونز.. الرجل بطلٌ في مهنته. يقالُ إنّ الروائي الإنجليزي جورج أورويل استوحى روايته “مزرعة الحيوان” من أحد أعمال هذا الصحفي، وهي قصة خيالية عن حيوانات تثور على مالك مزرعتها الجشِع والظالم (سمّاه “السيد جونز” في الرواية تيمّنا به) ثمّ تفشل ثورتها، في استعارةٍ فهمها الجميع عن الثورة الروسية ومآلاتها مع حكم ستالين.
بعد أن شكّل عمل “السيد جونز” أساساً لإحدى أهمّ روايات القرن العشرين، ينتقل الصحفي إلى الشاشة الكبيرة في عملٍ سينمائي عرض بمهرجان برلين السينمائي هذا العام.
“جميع الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر تساويا من غيرها”.. إنها إحدى العبارات الرمزية التي وردت في تحفة جورج أورويل “مزرعة الحيوان” والتي تردّدت في فيلمنا هذا. لقد فشلت الثورة السوفياتية في إحقاق العدالة الاجتماعية التي جاءت من أجلها، وتحت ظلّ الحكومة السوفياتية الشيوعية مات الناس جوعاً. إذا بحثنا عن كلمتي “أوكرانيا/ المجاعة” في محرك “غوغل”، فأول نتيجة تظهر لنا هي “الهولودومور”، أي القتل عبر التجويع.. ليست هذه مجاعةً طبيعية الأسباب، بل ناتجة عن قراراتٍ بشرية سياسية اتخذها نظام ستالين بحسب الأمم المتحدة. فبين عامي 1932 و1933، أودت الهولودومور في أوكرانيا السوفياتية بحياة حوالي 7 إلى 10 ملايين شخص. اسم غاريث جونز يرد كثيراً خلال البحث، ولكن ما الرابط بين الصحفي الويلزي وبين الإبادة الجماعية الأوكرانية؟
المجاعة الكبرى ورحلة غاريث جونز إلى أوكرانيا.. من هنا انطلقت المخرجة البولندية المخضرمة أنييسكا هولاند في فيلمها “السيد جونز”. غاريث جونز (جيمس نورتون) صاحب النظرة الفضولية، يبلغ من العمر 28 عاما. ورغم عمره الفتيّ في المهنة، فإننا نتعرّف إليه في أوج انطلاقته، وفي فترة وجيزة، بات أوّل صحفي أجنبي يقابل أدولف هتلر، الذي كان يومها زعيم حزب ألماني ذي طموحات توسعية كبيرة. نراقبه قلقاً، هو يعي ما يخبئه المستقبل “سياسات هتلر ستؤدي إلى حرب عالمية”.
شرقاً، يتابع جوزيف ستالين خطته الخماسية، فيصنّع أسلحة هجومية متطورة ويطور الدور الصناعي لاتحاده، بإصرار وعزيمة لا مثيل لهما.
تحتلّ عقل جونز فكرة واحدة حدّ الهوس: كيف ينجح جوزيف ستالين في تحقيق المعجزات التي يتباهى بها؟ ومن أين يأتي بالأموال؟ إنّها الأسئلة التي تدفع الصحفي باتجاه البحث. لقد عقد الرجل العزم على السفر إلى موسكو ومقابلة ستالين. يتجرأ الرجل على مواجهة النظام، فيزوّر أوراقاً ثبوتية ليصل إلى موسكو. وفي خضمّ وضع تاريخي، سياسي واجتماعي حرج، يكتشف ما لم يتوقّعه، هو القادم متأملاً بعظمة النظام الستاليني، سيكتشف شيئاً أكبر بكثير.
عينٌ صحفية ثاقبة وجرأة، عاملان دفعاه وراء ملاحقة شائعة سرت عن مجاعة في أوكرانيا، تسلل إلى هناك بشكل غير قانوني ليشهد على هياكل ملايين البشر الهزيلة، هؤلاء الذين تُرِكوا للجوع، بسبب سياسات زراعية صارمة قضت بتصدير كل القمح إلى الخارج. يعود إلى لندن، لا يوارب ولا يخاف، واجبه الصحفي يقتضي نشر الحقيقة، بإعلام الناس عن الظلم الواقع. ينشر الشاب العشريني نصوصا في صحيفتي “الغارديان” و”الواشنطن بوست”، يكشف فيها أهوال ما شاهده. مقال ويوميات جونز عن رحلته المليئة بالتفاصيل.
- مشيت عبر القرى وفي كل مكان، كان هناك بكاء “لا يوجد خبز، نحن نموت”.. صرخة من كل جزء من روسيا.
- ذهبت إلى منطقة الأرض السوداء لأنها ذات يوم كانت أغنى أرض زراعية في روسيا، والآن منع المراسلون من الذهاب ليروا بأنفسهم ما يحدث.
- في القطار، قال لي شيوعي إنه ليست هناك من مجاعة.. رميتُ قطعة خبز صغيرة كنت آكلها فاصطادها أحدهم وأكلها بشراهة.
- حذروني من السفر ليلاً لأن هناك الكثير من الرجال الجائعين البائسين.. كان الفلاحون يأكلون علف الماشية (…) “نحن ننتظر الموت”.. كانوا يرحبون بي بهذه الجملة، “ولكن انظر لدينا علف الماشية، إلى الجنوب ليس لديهم شيء.. فعلاً الناس ماتوا”.
هولاند نقلت في فيلمها هذه التفاصيل، الفيلم أشبه بصور الرئتين المتآكلتين على علب السجائر، تستخدم التوعية عبر الصدمة كما فعل جونز وقتها. في الفيلم نرى أطفالا يتضورون جوعا، يتغذون على لحم الموتى، بينما يتم إلقاء جثث الأمهات اللواتي يحتضنّ أطفالهنّ في الشارع على مرأى من الجميع. كل مشهد صارخ في الرعب وحادٌّ في تبيان الظلم، فالمخرجة لا تترك للمشاهد مجالاً للشكّ بصفّ من سيقف.
هيكل الفيلم بسيط وعملي: رحلة البطل الذي يحارب وحده ضد الجميع.. الصحفي الذي يخاطر بحياته لينتزع الحقيقة من أجل الرأي العام.
دافعت هولاند بعد عرض الفيلم عن ربطها الصحافة بالبطولة “أريد أن أهنئ الصحفيين الشجعان.. أعتقد أنه من المهم حقاً تحويلهم إلى أبطال.. بغض النظر عن الألم الذي يكشفونه لنا”.
الفيلم يمجّد حرية الصحافة ولا يفصلها عن ديمقراطية النظام.. حريةٌ أساسية في مواجهة أيّ هفوةٍ أو سقوط للحاكم، لتثبت الصحافة سلطتها الرابعة الفعلية. أثبت “السيد جونز” معاناة الصحفي في طريق تقديم الحقيقة الكاملة.. جونز على طريق كشف البؤس عانى بنفسه من الجوع والبرد.. بحث وتحقّق، وشهد وعاش الرعب.. هو أول صحفي استقصائي نقل للعالم ما جرى في أوكرانيا.. واجه ثلّةً من الصحفيين الذين أنكروا ما جاء به تحت ضغوط سياسية يرجّح البعض أنّها من الكرملين.
أكبر المعارضين كان الصحفي والتر دورانتي الذي كتب عدّة مقالات أنكر فيها صحة ما جاء به جونز وفاز بجائزة “بوليتزر” على ما كتبه.
نوعان من الصحفيين في “سيّد جونز”: النزيه الذي يسعى من أجل نشر الحقيقة، والمرتزق الخاضع للإملاءات والمصالح.. صحافة من أجل الحقيقة وأخرى مضادة لها.
لسخرية القدر، أو في الحقيقة من أجل المصالح الدولية، فاز الكاذب على النزيه بجائزة صحفية عريقة لم تُسحب منه حتّى اليوم. جونز نفسه انتقد هذا النوع من الصحافة، ردّ على غريمه دورانتي بمقالٍ هزّأه فيه، “من ناحية أخرى يسمح للصحفيين بالكتابة، لكن الرقابة حولتهم إلى أسياد عبر تلطيف التعابير، فأعطوا المجاعة اسماً مهذبا وهو نقص الغذاء، ومن يتضورون جوعاً حتى الموت حولوهم إلى وفيات بسبب أمراض سوء التغذية”.
الهولودومور صفحة سوداء من القرن العشرين، وصمتت أوروبا كاملة. لا شك أن سينما هولاند ثقيلة بالعموم حتى حين لا توجد حاجة لذلك، لكنّ الفيلم المتواضع سينمائياً نجح في تمرير الرعب من خلال الجمال المشهدي. الفيلم يجب أن يُشاهد لقيمته التاريخية، لقد وثّق حادثةً كادت تُمحى من صفحات التاريخ.
بعد عقود من الحرب العالمية الثانية، يعلم الجميع ما حدث، يدرك كثيرون أنّ دولاً دعمت التعتيم الإعلامي على انتهاكات حقوق الإنسان والفظائع التي كان لستالين دور فيها.
رسالة هولاند تتعدّى ما شهده جونز في أوكرانيا، تتعدّى سطوة الاتحاد السوفياتي وقسوة ستالين إلى القوى المستترة التي واجهت الصحفي الشجاع عندما عاد إلى إنجلترا، عندما تمّ التشكيك في شهادته ثمّ تكذيبه لأسباب سياسية، قيل إنّ المملكة المتحدة لن تعرّض العلاقات مع الاتحاد السوفياتي للخطر، وقيل إنّ من مصلحة أوروبا الحفاظ على قوى قد تواجه ألمانيا هتلر في ذلك الحين.
إنّ عالم الصحافة ما زال على حاله، باستثناء التطوّر التقني الهائل وسهولة الحصول على المعلومة، إلا أنّ سطوة السياسة على الخبر ما زالت موجودة. الأخبار تدار وفقاً لمصالح الأقوياء، واتجاه المعلومة الصحفية لا يزال أحاديّاً بشكل كبير. لقد مُنع جونز من دخول الاتحاد السوفياتي لاحقاً، أليست هذه القيود موجودة اليوم؟ لقد قتل الصحفي الحر بعد عامين بجريمة غامضة. يومها نعاه رئيس الوزراء البريطاني ليود جورج، معتبراً أنّه عرف “أكثر من اللزوم” عن ذلك الجزء من العالم. ألا يذكركم بمصير صحفيين يقتلون اليوم بأيادٍ مجهولة “معلومة”؟ كم من المجازر التي تحصل اليوم تواجه بالتشكيك ومزاعم الفبركة؟ كم من المعارك نختلف بين وهميتها وواقعيتها؟ وكم غاريث جونز اليوم يُلاحق، يُمنع من نشر المعلومة اليقين ويقبع خلف قضبان؟
المقال في الرابط الأصلي هنا